الضغث على الإبالة
أمير الدين
الهند
------------------
لَبّى شقيق "سلام" دعوة ربه في ريعان شبابه، وخلف وراءه زوجا، اسمها زينب، وثلاثة أولاد... يا لها من مسكينة.. أضحت أرملة في عنفوان شبابها.. عاشت تعسة بائسة بلا زوج.. صرخت أخت زينب الكبيرة قائلة بأعلى صوتها وكانت تسقط على الأرض مغشية على نفسها ولم تكن قادرة على أن تقوم على رجليها. فلما أفاقت قليلا أخذت توضح أن زينب كانت منذ نعومة أظفارها تعاني من المصائب الأليمة المرة.. أصيب أبونا بمرض عضال قبل زواجها، وبالكاد سلمت نفسه، فنشأت يتيمة مسكينة إلى أن شبت وحان وقت زواجها. ولم يكن عند الأبوين مال يمكنهما من تزويجها في الميعاد، فبقيت في البيت متأخرة متخلفة حوالي أربع سنوات عن أترابها. قاطعت زوجةُ أخيها كلامَها قائلة لها لتقلل من همها: نعم.. ذلك ما يحدث في هذا الكون مع كل. وكانت صديقات زينب يحطن بها، وأهلها يسلونها ليخففوا من أحزانها. سرعان ما صحت زينب لهنيهة يعلو صوتها في الغرفة تارة ويسود الصمت فيها تارة أخرى. ووقفت إحدى صديقاتها "مريم" من بينهن تتمتم كيف تتحمل هذا الحمل الثقيل المرأة الضعيفة التي صبته عليها أهوال ومصائب لو صُبت على الأيام لصرن لياليا.......... وهذه المرة أسوء من السابق. وما أن سمعت هذا الكلام امرأة واقفة عند الباب - اسمها بصمة - حتى سألتها عن الحادثة التي حدثت في بادئ الأمر معها فحكت مريم بوجه عبوس: لما زوجها أبوها بكفؤها الأول واستودعها إياه ذهبت معه إلى بيته واطلعت على أن زوجها ليس سارقا فحسب بل يشرب الخمر أيضا، وأسرته في نفسها ولم تخبر به أحداً من أفراد أسرتها حفاظاً لشرف العائلة وسمعتها في المجتمع، حتى أتى زوجها ذات يوم إلى بيت أبيها، وسرق رعثة امرأته الذهبية ليشرب الخمر حسب العادة، فقبض عليه أحد من أهل بيتها. ولما عثر على هذا العمل الدنيئ من قبله أبويها فقررا بألا يرسلا ابنتهما إلى منزله بعد ذلك.. يا له من قدر ويا لها من نازلة تنزل وتتراكم على هذه المسكينة.
قضت زينب ثلاث سنوات بعد وفاة زوجها الثاني وعزمت ألا تنكح أحدا بعد، لأن أولادها قد كبروا، ولكنها ما زالت شابة جميلة تميل عيون الناس إليها وتستقطب اهتمام الشبان إلى جسدها الناعم الغض؛ شعرها الحريري، وقدها الطويل، وجسمها الزجاجي، ولونها الأبيض، وهي تعيش في بيتها مع عيالها وحيدة، ولو تكلمت هي - البائسة - مع رجل يقضي حوائجها خارج البيت من السوق وغيرها فينظر الناس إليها بارتياب. وقد حدث ذات مرة أنها كانت تتكلم مع حموها ضاحكة (وزوجة حموها أيضا كانت قد ماتت) إذ رأتهما نسوة الجوار يتحدثان بوداد فشاعت عنهما أقاويل وأن الماء أصبح كدرا وطينا.
ولما بلغ هذا الخبر إلى أبويها فاعتراهما حزن أليم وكآبة مخيفة وطلبا إليها أن تستعد للزواج للمرة الثالثة. ولما سمعت زينب عما جلب لها تجربة وخيمة وشعورا مروعا وإحساسا مفزعا من أن تكون صاحبة لرجل ثالث فتحيرت واندهشت وارتعدت فرائصها. وكانت أيضا قد سمعت مشورة أمها بعمتها خلف الجدار مختفية عند دورة المياه عن الصاحب الكائن أنه عالم أطعن منها في السن فاقشعر جسدها، وكادت أن تخر مغشية عليها حينما أصغت إلى الجدار مرة أخرى "أنه ليس له أولاد كبار فحسب بل له أحفاد كثيرون"... دفعت العمة (أخت أبيها) دفعة تكاد تصطدم الأم رأسها بالجدار... ضجرت ووبخت... ألا تستحي؟ ... كم مرة تريدين أن تواري كريمتك تحت الثرى حية، فشتان بين عمره وعمرها.. فطنت زينب الأمر كله وطالبت أبويها بأن يمتنعا عن زواجها.. يا أم زينب ستكون كريمتك هذه كلفة حياتي اللامعة، لم يجرأ أحد أن يرفع أصابعه إلى حسبي وأن يشتكي إلى نسبي أو يشك فيه حتى الآن، ولكن... لا، لا، لو ردت الخطبة لكان أفضل لي أن أبتلع السم ولا أري الناسَ وجهي في المجتمع... صرخ أبوها غاضبا وهددها على إنهاء حياته فلم يبق بد لزينب إلا أن توافقه على كلامه. بدأت زينب تفكر وأوغلت حتى ذهلت أين هي وماذا تعمل. يا زينب! نادتها أمها.. لا تخوضي في أمرك عميقا، دائما أراك في حزنٍ يجعلك هزيلة ضعيفة شيئا فشيئا ولا يزيد توترك في جسمك إلا السقم والقبح واليأس، ولا يأتي أمرك إليك إلا بالخسارة ولا يكون لك فيه أي حل، فافعلي كما قال الشاعر:
دع الأيام تفعل ما تشاء، وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولا تجـــــــــزع لحادثة الليالي فمــــــــــا لحوادث الدنيــــــــــا بقــــــــــــاء
فـأنا وأبوك ننصحك بأن ترضى على الخطبة التي جاءت إلينا وإلا سنفقد أباك الذي عزم على الانتحار إذا لم توافقي على الخطبة. كانت هي تسمع نصيحة أمها من جهة وتسيل الدموع من عينيها من جهة أخرى، حسنا.. قالت لأمها بصوت خافت متقطع بالبكاء. وبدأت تمسك أيادي أولادها بيدها تباعا وتبكي بكاء يهز قلوب النساء والرجال المجاورين وتنحدر دموعها انحدار المضراب... وما تكرر إلا جملة "بالأمس غاب أبوهم عن عيونهم، ولم يرجع إليهم حتى الآن.. وهل ستغيب أمهم عن أنظارهم غدا، ولم ترجع إليهم طوال حياتهم، وامجتمعاه ويا له من ساكن فيه.. أليست المرأة تحظى بحقها أن تعيش وحدها مع أولادها، فمن يكفل أفلاذ كبدها الثلاث بمثلهما، ومن يقضي حوائجهم اليومية، وكيف يسكنون بيتا ليس فيه أب ولا أم".
داهمها اليوم المزمع فيه عقد النكاح، وصديقاتها يحاولن أن ينظرن إلى عريسها ولكن أهلها أخفاه داخل البيت لكي لا تقع عليه عيون النساء والرجال فإذا بولد من خدمه أفشى صورة العريس حين سألن عنه، وأذهل كلامه الجميع إذ قال للحشد: إن أبا زينب دمّر حياتها تماماً..لأن زوجها ليس بكهل وإنما هو هرم. يا لسوء حظ المرأة.
۞۞۞