"جميلة، صديقتي جميلة، تحية إليكِ حيث أنتِ...
في السّجن في العذاب حيث أنتِ ... "[1]
تدخل الأستاذة نعيمة إلى القسم وهي تدندن بهذه الكلمات ومحمّلة بكثير من الصّور الزيتية، الجميلة، تختار كل صّورة بعناية وتعلقها على السّبورة، الطلبة في حالة ذهول وانبهار وهم يستمعون إلى دندنة الأستاذة، وفي نفس الوقت يكتشفون اللّون والريشة، والصورة والملامح المرسومة بعناية، وكأنهم في درس للرّسم، أو في معهد للفنون الجميلة.
أبدى الطلبة حماسا كبيرا، وهم يساعدون الأستاذة نعيمة في اختيارها للصّور الزيتية، وتبدأ التعليقات على كل صّورة يحملونها يقول أحدهم:
- هذه صّورة القصبة قديما.
وينطق آخر بعده:
- وهذه صّورة المرأة بالحايك، وهي تعبر أزقة حيّ بالقصبة.
ويردف آخر، وهو يحمل لوحة زيتية باسما:
- وهذه لوحة تشبه رسومات الفنان محمد راسم.
تقول الأستاذة نعيمة، وقد لفت انتباهها اسم الفنان:
- وهل تعرفه يا زكي؟
- أعرف أنه فنان المنمنمات، ومن مواليد حيّ القصبة.
ردّت عليه قائلة:
- بوركت يا ولدي.
- وهذه الشخوص يا أستاذة للرسام ايتيان ديني، تقول سهى.
تومئ لها الأستاذة نعيمة بصحة قولها، وتبتسم. وحينما أنهت الأستاذة نعيمة تعليق الصّور، تركت واحدة مغطاة على مكتبها وهي تقول:
- والآن.... عودوا إلى أماكنكم، وشكرا لكم ...
ظلّ رشاد واقفاً، وهو يتطلع إلى الصّورة المغطاة على المكتب، انتبهت الأستاذة نعيمة لذلك، وأشارت له بالجلوس، لكنه أشار إلى الصّورة التي على المكتب.
ردّت الأستاذة نعيمة، قائلة:
- تلك الصّورة، هي مفاجأة الدرس، ويبدو يا أعزائي أنكم فهمتم محتوى درس اليوم.
نطق طارق:
- درس اليوم عن الرَّسم.
ردَّت عليه سهى:
- وهل الرّسم في مادة التاريخ؟
وتبتسم نور:
- إنه درس عن الأماكن القديمة، والصّور تجسّد حيّ القصبة العريق.
ابتسمت الأستاذة نعيمة، وهي تربّت على كتفها قائلة:
- بالفعل، اليوم سنتحدث بالرّسم عن حيّ القصبة العريق.
حيّ القصبة العريق الذي يشبه المتاهة في تداخل أزقته الكثيرة أهمها زنيقة العرايس، وزنيقة مراد نزيم بك، والقصبة هي تلك القصور الجميلة، كقصر مصطفى باشا، وقصر الصوف، وقصر دار القادوس، وقصر سيدي عبد الرحمن، ودار عزيزة بنت السلطان...
معالم كتبت على جدرانها حكايات الثوار والأبطال والمجاهدين والشهداء، وبأحد بيوت هذا الحيّ العريق ولدت زهرة من زهور الجزائر المجيدة، وسط أسرة محبة للوطن والحرية.
تقول الأستاذة نعيمة:
- إذن من تكون يا أعزائي، بطلّة اليوم؟
- ترفع إحدى الطالبات يدّها، وتقول بصوت جَهْوَري وبحماس:
- إنها البطلة جميلة بوحيرد[2].
أومأت الأستاذة برأسها مؤكدة ذلك، وهي تقول:
- أحسنت يا سهى.. وهل تعرفون حكايتها؟
كل الأيادي ترفع لسرد حكاية البطلة جميلة بوحيرد. اختارت الأستاذة أحد الطلاب في آخر الصف الذي كان شارداً، قائلة:
- أنت يا طارق..
وقف طارق، وهو يسوي هندامه، وفي ثبات ويقين يقول:
جميلة بوحيرد والدها عمر بوحيرد، الرّجل المثقف والثائر، من مدينة جيجل الساحلية، ووالدتها "بية" من أصل تونسي، كانت جميلة البنت الوحيدة وسط سبعة شبان، توفي منهم اثنان.
تقاطعه، وهي تقترب منه قائلة:
- ظننت أنك شارد الذهن!!
ضحك الجميع ...
- هدوء...هدوء... واصل إذن..
- التحقت جميلة بوحيرد بمدرسة "الأنديجين" وهي صغيرة وببراءة الأطفال وعفويتهم تردِّد في طابور التلاميذ في الصباح "فرنسا أمنا".
لكن جميلة بوحيرد ماذا كانت تردّد بـ يا أعزائي، قالت الأستاذة نعيمة:
كانت ترّد:
- الجزائر أمنا..
ويهتف كل الطلبة في القسم:
- "الجزائر أمنا"...
تبتسم الأستاذة، وقد ملئ صدرها حبورا، واغرورقت عيناها بالدموع، ثم التفتت نحو السّبورة، وهي تقول:
- وأنت يا سناء ماذا تضيفين:
وقفت الطالبة وهي تنظر إلى زملائها في كبرياء وشموخ، وتقلد أستاذتها في إيماءاتها، وتعابير وجهها، قائلة:
- كانت شابة جميلة، بارعة في ركوب الخيل، وممارسة الرقص الكلاسيكي، وشغوفة بالخياطة والأناقة، التحقت بمعهد الخياطة والتفصيل بسوسطارة الجزائر.
- أحسنتِ... قالت الأستاذة..
ثم تواصل:
- جميلة بوحيرد يا أحبائي، بوجهها الملائكي، وجمالها الرباني لم تعرف لعب الأطفال مثلكم، ولا مساحيق الزينة كالنساء، لم تعرف غير الوطن حبيبا تسكن إليه.
جميلة قالت لجلاديها، تتوقف الأستاذة وتسأل:
- أتعرفون معنى الجلاّد:
كل العيون تتطلع لإجابة الأستاذة:
الجلاّد يعني:
- مَنْ يتولَّى الجَلْد والقتل..
تقول جميلة بوحيرد، وهي تصرخ بأعلى صوتها أثناء المحاكمة:
- لا يحقّ للضبّاط الذين عذبوني على هذا الشكل إذلال المخلوق البشري جسديا على شخصي، وأخلاقيا على أنفسهم هم؟
تجلس الأستاذة بجانب إحدى الطالبات وتسألهم قائلة:
- والآن، هل من إضافات عن حيّ القصبة؟
تبادل الطلبة النظرات فيما بينهم، ثم رفع سامي يده، وقال:
- تطلُّ القصبة على البحر الأبيض المتوسط، معالمها وهندستها تشهد على ذاكرة الشعب الجزائري، كان حيّ القصبة مخبأ مهمّا للثوار والمجاهدين، ومسرحا للعديد من العمليات البطولية.
تقول الأستاذة:
- وحينما نقول القصبة.. نتذكر من؟ كل واحد يقول اسمًا، أنتِ يا مريم..
- على لابوانت..
- وأنتِ يا فاطمة؟
- حسيبة بن بوعلي..
- وأنت يا مسعود؟
- الطفل عمر ياسف.
- أحسنتم جميعا، تردّ الأستاذة، وتواصل سرد حكاية البطلة جميلة بوحيرد:
" ابنة العشرين من عمرها، جميلة الجزائر، المولعة بحب الوطن، ورمز النضال الإنساني، كانت قد انضمت إلى جبهة التحرير بتشجيع من عمها مصطفى بوحيرد، فعملت أمينة سر البطل عبان رمضان، ثم التحقت بصفوف الفدائيين ضمن شبكة "ياسف سعدي" بالمدينة.
تكبر الزهرة الجميلة، ويكبر بداخلها الظلم، وتكبر ظلاّل الحرية أمام عينيها لتعم أرجاء الوطن، لقد ألقي عليها القبض يوم 09 أبريل 1957، وبيدها حقيبة سوداء، بها وثائق جبهة التحرير اقتيدت جميلة إلى مصيرها، وهناك بمركز الشرطة تعرضت لشتى أنواع التعذيب من عناصر الفيلق العاشر للمظليين بقيادة الجنرال "ماسو".
تصمد جميلة الحرية[3] أمام الجلاّدين، وهي التي لم تجهض يدّ التعذيب شعلة الثورة في قلبها، وتنبس بشفتيها المليئتين بدماء الجزائر، ماذا تقول:
يردّ الطلبة بصوت واحد مفعم بالحماس:
- "الجزائر أمنا".
وكذلك كانت تردّد أثناء محاكمتها، قائلة:
- "الحقيقة هي أنني أحبّ وطني، وأريد أن أراه حرا..."
حكمت عليها المحكمة بالإعدام [4]، فأثار هذا الحكم عليها الرأي العام الفرنسي والعالمي، ثم عُدل إلى السجن مدى الحياة، ونقلت إلى سجون فرنسا، حيث قضت ثلاث سنوات.
نظم فيها الشاعر السوري نزار قباني قصيدته المشهورة بعنوان: " جميلة بوحيرد." من منكم يعرف القصيدة يا أعزائي؟
ترفع نور يدّها، تومئ لها الأستاذة الصعود باتجاه المنصة.
تقف نور، وهي تعتمد على تقاسيم وجهها، وحركات يدّها كشاعرة واعدة، مردّدة:
الاسم: جميلة بوحيرد
رقم الزنزانة: تسعونا
في السّجن الحربيّ بوهران
والعمر اثنان وعشرونا
عينان كقنديلي معبد
والشعر العربيّ الأسود
كالصيف ... كشلاّل الأحزان
... ....
تبتسم الأستاذة نعيمة، وهي تقول:
- فلنصفق جميعا، وبحرارة للشاعرة الواعدة نور، ونقول معا:
...الجزائر أمنا...الجزائر أمنا...