ما أجمل الكلام الذي لا يقال إلا صمتا...
بحثت في أغراضها ووجدت تلك الورقة المطوية، التي كانت لطائرة ورقية كتب فيها رقم هاتفي وبضع كلمات، وعادت بها الذكريات لما يقارب عشر سنوات مضت، لذلك الشاب الذي دوما ما كان يقف أمام المكتبة الوطنية التي يعمل بها شامخا كشموخ مقام الشهيد الكائن أعلى الربوة قبالتها بالحامة المجاور لشارع محمد بلوزداد الشهير، كان شامخا إلى السماء بأرجل ثابتة في الأرض كسبع يقف أمام الباب يمكن أن ينقض على فريسته في أي لحظة لأنه كان يعمل رئيسا للأمن بها، لكنها لم تكن غزال ولا ماعزا، بل طائرا محلقا.
كانت سماء طالبة في الأدب الإنجليزي ترتاد المكتبة الوطنية باستمرار، وتلتقي به هناك أمام الباب مع شلة أصدقائه لكن دون أي كلام أو حوار بينهما...وبعد عدة لقاءات ومصادفات خيل إلى منير أنها قدره في الحياة، وبداخله كان يحلم بأنه يطلب يدها، وأنها أصبحت ملكا له فهو معجب بها وبأخلاقها، لكنه لم يكلمها وظل يراقبها لبضعة أشهر قبل أن ينطق ببنت شفة، ودون أن تحس به أو بإعجابه نحوها أو على الأقل هذا ما كان يظنه منير عنها.
كان في كل مرة يراها متى تدخل ومتى تخرج للغذاء مع صديقاتها، ويحس بها عندما لا تكون في مزاج جيد للمذاكرة، ويحكي عنها وعن حالها لصديقيه شريف وعيسى اللذين كانا معه في العمل، حتى أنه في يوما من الأيام عندما ذهب مع الأصدقاء وزملاء العمل إلى شاطئ النخيل أو بالمبيش وجلسوا على الكورنيش قال شريف حينها عن خطيبته: هل تعرف يا منير لو سقطت سمية من هذا الكورنيش لرميت بنفسي مباشرة لانتشالها، وقال عيسى الصديق المتزوج أنا المهم أنقذ نفسي، أما منير فقال حالما: طبعا...لو سقطت سماء في هذه الهوة سأكون أنا وهي والموت معا، وهنا انطلقت قهقهات الأصدقاء على العاشق الولهان الذي لم يكد حتى يكلم هذه المحبوبة الغافلة عنه.
في اليوم الموالي وبينما هو واقف مع مجموعة من رجال الأمن يعطيهم الأوامر في دوريته للعمل هلت سماء الجميلة وهنا بدأ أصدقاؤه في الغرفة المخصصة لرجال الأمن يغنون أغنية التقدام العاصمي ...عليلوا تزوج وتهنى يا عليلوا...ويبدو أن أغنية الفأل بالأفراح والارتباط قد جعلته يستجمع قواه للتحدث مع سماء، وبعد وقت قصير صعد إلى الطابق الرابع بحثا عنها لأنها عادة ما تجلس فيه لأنه الطابق الأكثر هدوءا والمخصص للباحثين.
التفت منير يمينا ويسارا في الجهة الشرقية والغربية، ولم يجدها وعرف أنها قد تكون قد اختارت طابقا أخر، كان حسه الأمني عاليا فقد تعود أن ينتبه إلى أدق التفاصيل بالأخص ما يتعلق بفتاته سماء ويحفظ في ذهنه أدق تفاصيلها ملابسها وألوانها، طريقة مشيتها، تقاسيم وجهها حينما تضحك أو تبتسم، وكيف تلتفت برأسها إلى الخلف وهي تعيد خصلات شعرها الأشقر الذهبي وراء أدنها في حال ما تحس بنوع من الخجل، والقرط الفضي بلؤلؤة زرقاء والسلسلة الفضية الأجمل التي تزين مقدمة عنقها، والشال الذي تضعه على رقبتها أيام البرد، وحتى محفظة أوراقها الأرجوانية اللون وهي تستخرج بطاقة المكتبة يعرفها وكل تلك الأشياء التي تتعلق بها وأحلام كثيرة أخرى...كل هذه الصور دارت في مخيلة منير فيما هو يبحث عنها وأنفاسه تزداد وتيرتها كلما تصور أنه سيكاشفها عن مشاعره.
وصل إلى الردهة النصف دائرية المجاورة للدرج وبينما هَّم بالنزول لمحها جالسة على إحدى الطاولات من قاعة القراءة في الطابق الثالث، ولأن كل الواجهات زجاجية أو أمكنة مفتوحة يمكن رؤية القراء من خلالها، وقبالة الردهة المقابلة رآها مستغرقة بين الكتب تنهل منها ما يغذي فكرها، وأحب كثيرا منظرها وهي مستغرقة في القراءة، ولبرهة بدت كما لو أنها من عالم آخر، ولم يعرف ماذا يفعل أو كيف يتصرف وتظاهر بأنه يبحث عن أحد أصدقائه كي لا يُلحظ عليه الارتباك وعاد أدراجه دون حتى أن يجعلها تراه.
كانت تلك هي سماء وكم بدت تلك السماء بعيدة وهي تجلس في القسم الخاص بالأدب الإنجليزي وفي الزاوية الأمريكية وهو مكانه متسمر على الردهة المقابلة لها يتأملها من بعيد، صحيح من أنه نشأ بين الكتب ومطلع عليها لكن ليس إلى درجة أنه يتقن الأدب الإنجليزي أو يعرف الثقافة الأمريكية، لذلك فضل أن يرعاها بعينيه من بعيد ويراقبها دون أن يقول شيء، الحقيقة أن هذا الفارق بينهما هو ما يجعل منير يتراجع دوما في اللحظة الأخيرة للاعتراف عن مكاشفتها خصوصا وأنه يعرف أنها من عائلة مثقفة وميسورة الحال.
في إحدى المرات وفي يوم ماطر بينما كانت تهم بالرحيل نزلت الدرج وبوصولها إلى الطابق الأرضي بدأت تلبس معطفها ولمحت شخصا على أخر الرواق هو الأخر يريد أن يلبس معطفه وتوافقت حركاتهما في لبس المعطف ومن أمام المخرج الرئيسي أصبح يقول: إذا لبست سألبس...إذا لم تلبسي لن ألبس... وبوصولها إليه وقد أكملت ارتداء معطفها وهو أيضا كان قد لبس معطفه الجلدي...قال لها: إنه البرد أليس كذلك؟ قالت: نعم...ولم يكن ذلك إلا منير الذي كلمها، وبدأت الفتاة تضحك لأنه كان ظريفا جدا في طريقة كلامه.
هناك فقط تبادل منير مع سماء لأول مرة كلاما عاديا وبدا فعلا أن السماء يومها تمطر عليه أخيرا ببضع قطرات من كلماتها الجميلة، كان منير يومها سعيدا جدا من أنه أخيرا فكت عقدة لسانه معها وأنه وجد طريقا إليها...بدا الجو خارجا غائما وماطرا وباردا وحدها سماء منير صافية ودافئة وفي مزاج جيد للحب مع طائره الوديع...فمنير شاب وضئ وفي عينيه خجل ووسيم جدا، يسكن في الحي المجاور لمقر عمله لذلك يعرفه الجميع هناك ويحبونه، وفي المرة التي تلت حديثهما لأول مرة صعد عندها وبينما هي تدرس في انهماك وجدت طائرة ورقية حطت عند طاولتها فتحتها فإذا بها مكتوب عليها رقم هاتفه وعبارة تقول: أنا معجب بك...ووصل بعد برهة مع الطائرة.
- وقال: إنه رقمي...لكن سماء لم تعلق، واكتفت بالابتسام بأدب.
- ثم قال: ماذا تقرئين؟
- قالت سماء: أقرأ كتابا عن تاريخ الحضارة لأرنولد تونبي، لدي بحث عن الحضارة الغربية.
- ثم أضاف منير: إن أي حضارة على وجه الأرض تبنى على اليابسة والماء، وبداخله كان يقول إن الحب يبنى على منير وسماء.
فتح معها مواضيع شتى وتحدث عن نظرته للحياة وعن الحب والعلاقات والزواج والأولاد، لكنها لم تستطع أن تقول له أنها مخطوبة، بعد أيام سمع أنها سافرت إلى أمريكا بعدما تزوجت من رجل من أقاربها مغترب في أمريكا وصار يضحك على نفسه أنه لم يسألها ابتداء قبل أن يرسل طائرته الورقية في سماء أحلامها.
لكنها تركت له رسالة مع صديقه شريف كتبت فيها تقول: اعذرني لم أستطع أن أودعك نظرا لضيق الوقت أنت بالفعل شاب رائع وقد كنت سعيدة بالتعرف إليك، بعد غد سأسافر إلى أمريكا مع زوجي...أتمنى لك السعادة دائما...سماء.
الحقيقة أن سماء هي الأخرى كانت تبادله الإعجاب وكانت تنتظر أن يكاشفها بمشاعره حتى أنها في بعض الأحيان كانت تأتي خصيصا لتراه فقط ثم تذهب، ولما لم يكاشفها بحقيقة مشاعره لم تعرف كيف تتصرف خصوصا والعرسان يطرقون بابها كل يوم وكانت دوما تتحجج بالدراسة، ومع إلحاح أمها وعائلتها بقبول ذلك الخاطب المغترب والذي يعتبر من العائلة لم تجد من بد إلا بقبوله، وطارت هناك إلى البلاد البعيدة، التي كانت تدرس عنها فقط في الكتب، وقبلت ورضخت إلى الأمر الواقع لأنه كان قد جاء متأخرا بخطوة ومتقدما فقط بطائرة ورقية وبضع كلمات لا تكفي لبناء بيت.