هبَّت فجأة دفقة نسيم منعشة.
سرنا باتجاه العمق.
نحو مزيد من العتمة والهدوء وأبواب المحلات الصغيرة التي أغلقت مبكراًً. لازالت تلك الأزقة الضيقة تحمل رائحة تاريخ سري من المؤامرات والمكائد حين كانت الدماء الساخنة تتدفق فجأة، وتجحظ العيون فى رعب، ولا تكتمل أبداًً صرخة الموت الغادر.
ثمة سلطان كان يهز رأسه باسماًً، راضياًً ويقذف بكيس من الذهب ليتلقفه قائد الشرطة مكافأة له على التخلص من شاعر غزلي رأى ديوان المظالم يضج بالشكاوى والقضاة صامتون فتحول إلى معارض سياسي. وفى ظهيرة اليوم التالي ثمة إمام يدعو من فوق المنبر بصلاة الجمعة:
- ادام الله فى عمر السلطان! أعز الله السلطان!
فيردد المصلون خلفه
- آمين!
كنت أشعر بأرواح هؤلاء الذين قُتلوا غدراًً قبل قرون ترفرف بالقرب منا ونحن نسير في هذا الحي من أحياء القاهرة الفاطمية.
أحد الكلاب الضالة تطلع إلينا برهة ثم عاد ينكس رأسه ويطلق عواء خافتاً حزيناً قبل أن يغيب بالظلام.
ماذا تريد هذه الأرواح؟
لا أستطيع أن أفعل لها شيئاًً.
تاريخ أمتي كتبه موظفون فى قصر السلطان، والقتلى راح دمهم هدراًً دون أن يعرف أحد شيئاًً عن قضيتهم النبيلة.
قالت في هدوء:
- لا أريد أن أكمل فى هذا الاتجاه
استدرنا. سألتني:
- فيم تفكر؟
- فى قصص الحب التاريخية التي وُلدت في هذا المكان، نادراًً ما كان الرجل يرى المرأة قبل ليلة الدخلة، لكن للعشاق حيلهم كما تعرفين!
كذبتُ حتى لا أزيد الموقف سوءاًً.
- بالتأكيد
ضحكت
- أحب هذا الحي. يذكرني بدمشق القديمة التي التقطت فيها صوراًً رائعة صنعت منها معرضاً مختلفا.
قالت وهي تمد خطواتها أكثر.
كنت راضياًً تماماًً عن سير عمليات الإرسال والاستقبال بين جسدينا حتى الآن.
فى البداية كانت تتحفظ كلما تلامس كتفانا أو تلاقت أصابعنا بالصدفة. فى الشارع الضيق المزدحم، استسلمت مثل كتكوت مبتل لعناقي غير المكتمل.
فى المقهى لم تمانع من اقتراب ساقىَّ الطويلتين وهي تضع ساقاً على ساق. الآن يبدو أن حقلاً مغناطيسياً لا مجال لمقاومته يحيط بجسدينا، مثلما تحيط الهالة النورانية برؤوس قديسين يجلسون على مقاعد من هواء وتخرق نظراتهم قشرة السماء.
وصلنا إلى قلب " الحسين "... شارع طويل مزدحم بالأضواء وضجة البيع والشراء. الواجهات الزجاجية تزدان بنماذج التماثيل والمسلات والحلى. هنا بازار متخصص فى كتابة أسماء العشاق بالهيروغليفية على ورقة بردي. التسليم بعد ساعة.
محلات أخرى تخصصت فى الكريستال.
بدت أهرام الجيزة وأبو الهول والكعبة والمسجد الأقصى محملة برقة لا توصف حين تحولت إلى مجرد نماذج شفافة منحوتة من هذه المادة التي تنتمي للسماء.
ــ أوه.. انتظر.. أريد أن أعرف السعر!
أشارت نحو " الكوفيات " العريضة الطويلة فى محل صغير يكاد يكون مجرد صندوق صغير بابه من الحديد.
ــ أريدك أن تسأل أنت عن السعر، لأنني لو سألت سيبالغ البائع باعتباري سائحة
هذا إذن هو الشيء الوحيد الذي لفت نظرها.
نفس الكوفيات التي كانت حكراً على الرجال من البدو والفلاحين، صارت الآن موضة حريمي ووسيلة مجربة لإثارة هوس السياح.
الفارق الوحيد هو تزيين الكوفية العصرية بهذا الكم من الزخرفة والنقوش فى حين أن كوفية جدي حتى فى ليلة عُرسه كانت سادة تماماً.
البائع نظر نحو ماريا أولاً حين سألته. كانت تقف على البعد تتظاهر بتأمل قطع الكريستال داخل الفاترينة.
قال رقمه بهدوء وحسم.
رفض أى محاولة للتنزيل.
أدركت أنه يعرف لمن ستؤول الكوفية. ماريا حسبت الرقم بعملتها فوجدت أنه خمسة يورو.
ــ أوكى. حين استلم ثمن أول لوحاتي التي بيعت بالأمس، سأقوم بجولة شوبنج هنا.
ــــ سأكون معك فى هذه الجولة، وسنصل إلى نصف الأسعار التي يبدأون بها، فكل شيء هنا خاضع " للفصال ".
ــ بالطبع. الأمر نفسه يحدث عندنا وربما أكثر فى الأسواق الشعبية بإيطاليا.. ألم تسمع عن بورتا بورتيزى؟
ــ حمداً لله، لقد بدأت ثقافة البحر المتوسط تعطف علىَّ وتمنحني شيئا مشتركاً بيننا.
قلت بمرح محاولاً أن أخفى إحباطي من عدم دهشتها أو امتنانها لفكرة " الفصال " حتى نصف السعر.
وصلنا إلى الميدان الرئيسي مرة أخرى.
المآذن الشامخة حولنا تحمل البصمة المميزة لفن العمارة الفاطمي. إنه الوجه الآخر للسلطان. دقت ساعة الميدان الواحدة. حانت إذن ساعة الحسم التي سيتوقف عليها مصير وشكل هذه العلاقة، فنحن لن نظل نتسكع هنا إلى الأبد، كنت أعرف أن الدقائق التالية ستحدد اتجاه الريح فى شراييني، وإيقاع نبضاتي فى المستقبل.
استندنا بظهرنا إلى السور الحديدى للحديقة الصغيرة.
رفعت قدمها اليسرى إلى الحافة الرخامية.
ــ هل جربتِ أروع شاي في مصر؟
سألتُ دون مقدمات.
حدقت فى عيني طويلاً ثم انفجرت فجأة فى ضحكة طويلة اهتز لها جسدها بأكمله. شعرت بالارتباك، فقد أصبح منظرنا مثيراً لانتباه أحد ضباط الشرطة، وفضول سيدة محجبة تفترش الحشائش بالحديقة وهي تفرد ورق الجرائد وتوزع سندوتشات الفول والطعمية على أطفالها.
ــ آسفة!
قالت بصعوبة وهي تحاول السيطرة على نفسها.
وضعت يدها على كتفي فازددت ارتباكاً.
ــ أعتذر مرة أخرى، ولكن الرجال فعلاً يتشابهون مهما تغيرت اللغة أو اختلف لون البشرة!
ــ لا أفهم شيئاً
ــ أنت تسألني إن كنت قد جربتُ أروع شاي فى مصر، سأجيبك بأنني أفضل الشاي العادي بطعم النعناع، ستقول إن هناك خلطة سرية لصنع شاي لا يقاوم، وبالطبع مكونات هذه الخلطة لا توجد إلا فى مطبخك. وبالتالي علينا أن نطير فوراً إلى بيتك حتى لا تفوتني هذه الفرصة الرهيبة. ستتظاهر بالجدية وأنت تقول بنبرة خاصة " صدقينى هذه فرصة لا تتكرر ". وحين ينطلق بنا التاكسي باتجاه البيت ستدير فى رأسك كل السيناريوهات الممكنة لمرحلة ما بعد إغلاق الباب علينا، سيكون هذا ممتعاً ومثيراً لخيالك حتى أنك ستكون كريماً مع السائق بشكل استثنائي.
لم أعرف بماذا أرد.
كانت قد هدأت قليلاً هستيريا الضحك المفاجئ أصبحت تحت السيطرة.
ــ هل تشعر بالصدمة الآن لأنني أحبطت مخططاتك؟
سألتني وعيناها تلمع ببريق الانتصار.
أخرجت علبة مناديل ورقية وجففت دمعات تتألق تحت ضوء النيون مثل حبات لؤلؤ لم يعرف الغواصون لها مثيلاً.
لم تكن تنتظر إجابة.
كانت مثل ملاكم أطاح بخصمه بالضربة القاضية بعد مرور 30 ثانية فقط من بدء الجولة الأولى ثم انحنى عليه ليهمس فى أذنه: هل تود أن تحاول ثانية يا عزيزي؟ بينما الجماهير الغفيرة تطلق صيحات الاستهجان والاستياء بسبب انتهاء المباراة سريعاً دون إثارة أو دماء!
ــ أرجوك! لا تبتئس هكذا، فالعيب ليس فيك، بل فى العولمة التي جنت على خيال الرجل فى الألفية الثالثة.
كنت على وشك أن أسألها ماذا تقصد، غير أنى ضحكت أخيراً.
ــ لست مضطراً لأن تقول أي شيء.
ــ أوكى
قلت مستسلماً.
ولنصف ساعة كنا نسير فى صمت لا يقطعه سوى عناق أصابعنا دون أن نعرف أين تقودنا خطواتنا..