قلتُها مبتسما باسطا راحتيّ محرّكا عينيّ في اتّجاه كلّ العيون فجاءني سريعا الردّ من كلّ نواحي القاعة:
كان يمكن أن يبادلني هؤلاء الطّلبة التّهنئة نفسها لو علموا أنّني أنا أيضا أدخل الجامعة مدرّسا للمرّة الأولى فيقولون:
كنت فرحا.
وكانوا فرحين.
وكان سبتمبر منتشيًا بعودة البهجة والحركة إلى الشّوارع والأنهج والحافلات والمدارس والمعاهد والكلّيات وبحلول نسمات خريفية حلّت محلّ رياح الشّهيلي وخفّفت كثيرا حرارة الطّقس.
اقتربت منهم وتجوّلت بينهم وسألتهم عن أحوالهم وعن دوافع اختيارهم لهذه الشّعبة التي يقول عنها الجميع إنّها لا تشغّل خرّيجيها ولا تطعم الخبز.
تجوّلتُ قليلا بين الصّفوف ثمّ عدت إلى مكتبي وشرعت أقدّم لطلبتي الجدد أضواء على برنامج عامهم الأوّل بالجامعة. كنت أُمْلي وأنا أقرأ وجوه طلبتي وكانوا يكتبون وهم يسترقون النّظر إليّ.
كانت عيناي تتردّدان بين حاسوبي أستعين به في تقديم برنامج السّنة وطلبتي أقرأ على وجوههم البهجة والفضول والخوف والاغتراب ولكنّهما كانتا تذهبان كثيرا في اتّجاه واحدة من طالباتي لا أدري لماذا حدّثتني نفسي الأمّارة عادة بالشكّ وبالتّهويل أنّها... تشبهني.
لم أقل لكم طبعا إنّني رجل مصاب بخيال يشتغل كثيرا ولا يعترف بالحدود الدّنيا للمنطق والمعقول.
أهوّل الأمور كثيرا.
وأذهب إلى ما لا يذهب إليه غيري.
وأتوقّع غالبا أحداثا لا تقع بعد ذلك أبدا.
وأقضي أحيانا أوقاتا طويلة تحت وقع الغضب بسبب مشكلات وخصومات وخلافات لم تحدث إلاّ في... خيالي.
رددت ادّعائي بأنّ الفتاة تشبهني إلى خيالي المنفلت دائما. ولكنّ عينيّ ظلّتا تذهبان إليها وتحطّان على تفاصيلها حتّى أنّي خشيت أن ينتبه زملاؤها إلى أنّني أخصّها بنظراتي.
ماذا لو حدث ذلك ؟
ماذا لو حدث ذلك وأنا أبدأ مع هؤلاء الطّلبة عهدا جديدا تعبتُ كثيرا قبل أن تطأه قدماي ؟
وهل سيكون جميلا أن أخيّب منذ الحصّة الأولى أمل طلبتي فيّ فيغادرون القاعة ولا حديث لهم إلاّ عن أستاذهم ذي العينين الزّائغتين زير الطّالبات الّذي جاء يدرّسهم الحضارة العربيّة؟
قرّرت أن أحبس عينيّ في حاسوبي إلى أن تنتهي الحصّة ثمّ لا أدري كيف نبتت فيّ وألحّت عليّ فكرة خبيثة : قلت أحاول أن أتذكّر وجهي وأقارنه بوجه طالبتي الجالسة على مرمى وردة منّي لأضع حدّا لهذا الهاجس الّذي أخش أن يُفسد درسي الأوّل بالجامعة... قلت ذلك وعزمت عليه ولكنّي بعد محاولات عديدة لم أجد لوجهي في ذاكرتي أثرا... فتحت خانة الصّور التي يحويها حاسوبي وأخرجتُني منها ونظرت إليّ ثمّ حرّكت بصري منّي إلى طالبتي فتأكّدت أنْ لا علاقة لما استنتجته عيناي بانفلات خيالي وازددت يقينا أنّ الفتاة تشبهني. العينان عيناي والأنف أنفي والفم فمي والوجنتان كأنّهما وجنتاي ولون البشرة مشترك بيننا وليس بين وجهينا اختلاف.
طوى الطّلبة حواسيبهم وكراريسهم وأسرعوا نحو الباب. لم أكن الوحيد الذي تلكّأ في جمع أدباشه ومغادرة القاعة... طالبتي الّتي تشبهني تلكّأت أيضا حتّى إأّها كانت آخر المغادرين وكانت تتعمّد أن تضع عينيها في عينيّ وتتأمّلني.
ليلتها لم أنم ولا فارق وجهها وجهي ولا طيفُها خيالي.
تمنّيت لو أنّ واحدا من الطّلبة تجرّأ وقال لي مثلا : أستاذ، بينك وبين زميلتنا هذه شبه واضح.
لو كان شهد بالشّبه غيري لزاد يقيني أنّه قائم لا لبس فيه وأن لا علاقة له بخيالي المريض.
ثمّ ألحّ عليّ سؤال:
قلتُ لي ذلك وشرعت في استحضار أشخاص يتشابهون كثيرا.
أعادني سؤالي إلى عقلي فقرّرت أن أسلّم بالشّبه وأن أدع التّفكير فيه نهائيّا وأقنعت نفسي أنّني كنت مهتمّا بمسألة لا تدعو إلى الاهتمام.
وبدأت أنسى طالبتي.
وانشغلت عن الأمر بأحداث أخرى...
إلى أن جمعتني بشبيهتي حصّة الدّرس بعد ثلاثة أيّام.
دخلوا.
ودخلت.
وكانت آخر الدّاخلين.
في الصّوت رنّة ذكّرتني بماض أصبح الآن بعيدا.
تبخّر قراري بالعدول عن التّفكير في طالبتي أو في شبهي بطالبتي وبعسر شديد وتلكّؤ واضطراب أكملت حصّة ذلك اليوم ولأداريَ ارتباكي وأبدوَ أمام طلبتي متماسكا خرجت عن فحوى الحصّة وبدأت أسأل كلّ واحد منهم عن اسمه ولقبه ومدينته وظروف إقامته وانطباعه حول الجامعة والطلاّب والدّروس والأساتذة...
نجحت عن طريق لعبة التّعارف تلك وما كان يدور بيني وبين الجماعة من أسئلة وأجوبة في استعادة توازني الّذي فقدتُه أوّل الدّرس عندما التقطتْ عيناي وجه شبيهتي والتقطتْ أذناي صوتها ورنّته المميّزة التي ذكّرتني بصوت مّا.
منذ عشرين عاما ودقّات قلبي لا تحيد عن انتظامها ولا يعتريها اضطراب ولا تتأثّر بما يجري فيّ وحولي...
قبل ذلك عانيت زمنا اضطرابها ثمّ أقلقني الأمر لمّا تأكّدت أنّه ليس طارئا ولا عارضا فعرضت قلبي على أخصّائي فحصه ونظّم بدواء فعّال دقّاته ووعدني أنّني لن أشعر أبدا بتسارع الضّربات أو تباطئها.
اليوم وبعد أن نطقت شبيهتي باسم مدينتها عادت دقّات قلبي إلى اضطرابها الذي تخلّت عنه منذ عقديْن من الزّمن...
دقّ قلبي بعنف...
خلتُ أنّ طبلا يقرع داخل صدري.
أصابني إغماء سرعان ما استفقت منه.
شكرت بكلمات متسارعة طالبتي وطلبت من بقيّة زملائها أن يتناوبوا على تقديم أنفسهم واحدا تلو آخر...
كنت أوزّع ابتسامات بلهاء وأعقّب بكلام أجوف قتلا للوقت الّذي لا أدري لماذا يومها طال وامتدّ وتمطّط.
لم يَعْن لي اسمها شيئا، فـ"بثينة اسم ضارب في القدم متداول بين الفتيات. ولم تعنِ عبارة جنوب البلاد شيئا مخصوصا فالجنوب مدن كثيرة وبشرٌ بلا عدّ وتاريخ طويل وذكريات لا حصر لها.
ولكنّ ما أخرج قلبي عن عقله اسم المدينة.
أنا الآن ممدّد على سريري.
على يميني قهوة سوداء باردة.
وعلى يساري علب سجائر تستحيل واحدة بعد أخرى إلى دخان يملأ سماء الغرفة وإلى رماد يملأ منفضات السّجائر.
وبين عينيّ المدينة التي سكنتها عاما منذ واحد وعشرين عاما. كان عمري في العشرين عندما حصلت على شهادة الباكالوريا ولست أدري لماذا اعتقدت واعتقد أهلي أنّ ما بلغته من الدّراسة يكفيني وأنّه آن الأوان لأنتقل إلى عالم الوظيفة والجراية .
عُيّنت معلّما بإحدى مدارس تلك المدينة.
اكتريت منزلا قريبا من المدرسة ووزّعت وقتي بين تلاميذي ودروسي والمطبخ والمقهى.
سماء غرفتي الآن أسود.
هواء غرفتي الآن خانق جدّا.
ورأسي يدور.
يدوووووووووووووور
يدور رأسي.
يعود بي من عامي الأوّل هذا أستاذا في الجامعة متخصّصا في الحضارة العربيّة إلى عامي الأوّل معلّما بتلك المدرسة من تلك المدينة مرورا بالتحاقي ذات زمن بالجامعة وحصولي منها على الأستاذيّة وانتقالي إلى التّعليم الثّانوي ثمّ انشغالي بالمرحلة الثّالثة ووصولي إلى مرتبة الدّكتوراه.
رأسي يدور.
يدور رأسي.
يأخذني من طالبتي التي تشبهني إلى امرأة حطّت بي الصّدفة وحدها ذات عام في مدينتها وفي دار تلاصق دارها... امرأة طرقت بابي ذات ليلة تطلب أن أركبها في سيّارتي إلى المستشفى للّحاق بزوجها الذي بلغها حينها أنّه أصيب في حادث شغل.
طرقت بابي ليلتها.
ثمّ أصبحت تطرقه باستمرار طيلة الشّهور التي احتفظ فيها بزوجها قسم العظام...
وأصبحنا نتزاور ونقضي لدى بعضنا البعض أوقاتا طويلة من القيلولة واللّيل...
كنت بكرا.
وكانت فاتنة.
وكان ذلك عامي الأوّل والأخير بتلك المدينة التي جاء اليوم من يذكّرني بها ويعيدني إلى تفاصيلها وإلى ذكرى امرأة فيها حسبتني نسيتها أبدا.
طالبتي...
تلك المرأة...
تلك المدينة...
رنّة الصوت...
الواحد والعشرون عاما...
العشرون ربيعا...
هل كان عليّ أن أعير مسألة الشّبه كلّ ذلك الاهتمام ؟
هل كان عليّ أن أسأل "بثينة" عن مدينتها ؟
هل...
هل...
هل...
؟