في كل سنبلة مائة حياة
(القصة الفائزة بالجائزة الأولى بالمناصفة في الفئة الأولى، فئة الدكتوراه في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
" د. توصيف الرحمن *
كان الموظفون يصادرون الأثاث، ويقلبون الأواني، ويطرحون الملابس والأزياء كالطفل الغضبان الذي يقذف كل ما يجد أمامه، وهي تئن أمامهم قائلة: "اعفوا عنا أيها السادة، أطلقوا سراح زوجي.. سندفع عاجلا.. سندفع.. سامحونا أيها السادة.. سندفع.. ضمّت يديها رافعة إلى الصدر وجلست إلى أرجلهم باكية "سامحونا أيها السادة.. سامحونا.. أين نذهب إن لم يكن لدينا هذا البيت الوحيد..". ثم غطت وجهها بيديها وبدأت تشتكي إلى ربها: أين رحمتك يا مولاي؟ غشينا المقرضون فجأة، وسجنوا زوجي.. لقد سئمنا من هذه الحياة البائسة الكليلة".
إنها كانت نائمة أيقظتها رؤيا مخيفة ففزعت من منامها، وتحولت إلى زوجها فلم تجده في مكانه. هرعت إلى الخارج وهي تنادي: "جاسي.. جاسي.. أين أنت جاسي..". لم تسمع أي صوت في البيت ولا ركزا فهرولت إلى الغرفة النائية ودفعت الباب فوجدته مغلقا من الداخل. طقطقت مرة بعد مرة وهي تنادي باكية "جاسي.. جاسي.." حتى خرت مغشيا عليها.
أتى "نوجوت" من المدينة قبيل الضحى، ودخل البيت فرأت أمها على الأرض. سعى إليها صاحيا "أماه.. أماه.." فوجدها جثة لا تتحرك. اندفع نوجوت بالبكاء، ونادى أباه. ورفع جثة أمه باكيا ليضعها على السرير فساعده صديقه الذي أتى من المدينة. سمع الجيران نحيب الشاب فأقبلوا إليه وبدأوا يصرخون متسائلين أين أبوك "جاسي"، لم نره اليوم. قال لهم نوجوت متسائلا: أين هو؟ أنا لا أدري، قبل قليل أتيت من المدينة فوجدت أمي ميتة. ثم هرعوا إلى الغرف الأخرى يفتشون عنه فلم يجدوه في أي مكان. ولما وصل "نوجوت" إلى الغرفة الأخيرة حيث وجد أمها على الأرض دفع الباب فوجده مغلقا.
تقدم الناس إلى الباب فانفتح بعد دفعات شديدة لكن المنظر كان مروعا للغاية. كان المرء معلقا بالمروحة كما تعلق الزهرة الذابلة تلطمها الرياح يمينا وشمالا. ارتفعت الأصوات بالنحيب والنياح "مات عزيزنا.. أهلكه الموظفون.. اللعنة عليهم.. كلنا سنموت.. لن يترك هؤلاء الأبالسة أحدا منا.. اليوم فلان.. وغدا نحن..".
كانت الأسرة مكونة من أربعة أفراد؛ الوالدان، والولدان؛ "لكشمي" و"نوجوت". تزوج "جاسي" بامرأة بائسة تنتمي مثله إلى أسرة فقيرة، لكنه كان يعيش سعيدا مع زوجته، ويعمل كدّاً في حقوله من الفجر إلى المغيب لا يمتلك ثورا للحرث، ولا موطورا للسقاية. وبجهوده المضنية طول النهار كان يخر في المساء مغشيا عليه لشدة التعب وقسوة الأحزان التي أصابته بعد فترة من الزواج.
مضت أيام وانقضت ليالٍ بين قسوة الفقر، وشدة الشمس والجدب حتى حل موسم الأمطار، وكاد أن يرحل من غير غيث ولا وابل. وكادت الأرض أن تنفطر لكن الجهود الجبارة مع الأمل الذابل ذبول الزهرة مهدت سبيل "جاسي" أن تتفتح النورة فيما أنبتته الأرض الصخراوية. نزل الغيث في بداية شهر سبتمبر حينما ارتحل شهران من موسم الأمطار. واستمر الرجل في جهوده، فكان يحرث حقله وينبت فيه أنواعا من النبات، وفي الليلة الظلماء ينير بيته بالحب والوداد ليكون عامرا بالأطفال.
وفي إحدى الليالي المقمرة من الربيع كانت القابلة تسعى من غرفة إلى أخرى، وتطلب من "جاسي" بين آونة وأخرى أن يحضر بعض نسوة من الجوار وبعض الثياب والماء الساخن والمساحيق. اجتمعت النسوة بعد قليل وأحضرن كل متاع للقابلة بينما كان جاسي يمشي خارج الغرفة، ويجلس ويسأل، ويعلو وجهه أشباح من التفكير والمسرة. كانت المرأة تبكي وتئن، وفجأة ارتفع صوت البكاء، وعلا معه صوت بكاء الوليد، فتهلل وجه جاسي وخر ساجدا أمام إلهته.
رزق جاسي طفلة سماها "لكشمي" متفائلا بإلهة "لكشمي" أنها ستجلب للأسرة رزقا وفيرا وسعادة دائمة، وبالطبع كانت الطفلة سعيدة الحظ، ترعرعت في ظل أبويه اللذين كان ظلام الفقر ينقشع عنهما يوما فيوما. وبمرور الأيام أخذت الطفلة تنمو وتكبر حتى بلغت في العاشرة من عمرها تساعد أباها في الحقل، وأمَّها في البيت تربي شقيقها الذي كان يصغر منها أربع سنوات. كما كانت هي تتعلم الحياكة وصنع الطعام مكان القراءة والكتابة، وكل ما تعلمته قراءة وكتابة هو الحروف الأبجدية البنجابية.
ذهب جاسي مع امرأتها وابنتها إلى المصرف آملا أنه سيقرض مبلغا من المال يكفيه لزواج ابنتها، ولشراء بعض الآلات للزراعة. وقد طرد من المصرف أنه لا يوجد لديه متاع أغلى من المبلغ للضمان فإما أن يقتنع بالقليل، وإما أن يعود خائبا. أطرق المرء هنيهة وعاد إلى الشباك أنه مقتنع بالقليل الموعود ليساعده في زواج البنت ولو قليلا. أعيد المرء ثانية وثالثة ورابعة أن ينتظر في الخارج حتى يدعى اسمه، وهو يقضي سويعات الانتظار بين الأمل والوجل حتى دعي إلى الشباك حينما اصفرت الشمس وأعطي المبلغ القليل الذي كان يسخر منه على فقره وافتقاره. عاد المرء مع أهله ووصل إلى البيت بعد أن أضاع يوما كاملا من العمل.
لم يبق لجاسي أن يبيع جزءا من حقله ليكمل به أهبة زواج ابنته الكبرى، بينما كان خطيبها يسألها مبلغا عظيما من المال. وأخيرا إنه باع الجزء الأكبر من الحقل لإكمال الزواج ولئلا يفرّط شيئا في حق ابنته. واقترب الموعد، وغمر السرور على وجه كل من الوالدين والأولاد أن "لكشمي" ستتزوج بعد يومين، لكن جبين المرء كان يتصبب عرقا من الحزن الذي أصابه لأجل الاقتراض وبيع الحقل الموروث عن أبيه وجده. أخفى الأب كآبته عن الناس، ووضع يمينه على رأس ابنتها يباركها بالزواج والسعادة طول حياتها.
جاء يوم الزواج والناس كان يغمرهم النشاط والسرور، يمتعون ألسنتهم بأنواع من المآكل، ويريحون أرواحهم بإضاعة شطر مما تناولوها في صحفهم. والعريس كان في مقعده يبتسم على استضافة رحيبة، وصهره "جاسي" كان يبادله بابتسامة خفيفة، غير أنهما كانا يفكران في المقولة الجبرانية "إنما الزيجة في أيامنا هذه صفقة رابحة". كان المعطي يفكر أنه اعتصر قلبه لسعادة ابنته فهل يرضى زوجها وأهله؟ والآخذ كان يفكر أنه هلا ازداد في السؤال ليرتوي بهذا الماء العذب. وفي مساء اليوم ودع المرء ابنته باكيا على فراقها الأليم، وعلى إنهاء حفلة الزواج بالنجاح المرير.
وفي اليوم الثاني من الزواج، أتى موظفان من المصرف للإخطار باقتراب الأجل، وإنذار المرء من عوائد التأجيل. أسرع المرء إلى المصرف آملا أن يمهله المصرف بتمديد الأجل، وبين لهم أوضاعه القاسية، وأنه في حاجة ماسة إلى تمديد الأجل ليفك رقبته من القرض المودي بحياته لأنه باع الجزء الأكبر من حقله. إن الموظفين في المصارف الحكومية كالعميان يدركون كل شيء، لكنهم لا يفقهون شيئا، ولو فقهوا لأصبحوا مثل أولئك المستقرضين البائسين الذين يضمون أيديهم أمامهم يلتمسون ويئنون. وهكذا أخرج "جاسي" كل ما في جعبته من سهام البكاء والالتماس حتى غدت خالية.
عاد المرء إلى بيته صفر اليدين، وهو يزحف في الطريق كمن تشللت رجلاه، يقف مرة في الشارع يتفكر في أولاده، ويسير مرة أخرى ليوصل جسده التعبان إلى البيت. "كيف عملت في حقلي منذ عشرين سنة لم أدخر شيئا من المال، ولم أُربِّ أولادي تربية صالحة. لم يتقو ابني فيعمل في حقول الآخرين، ولا اكتسبت امرأتي شيئا بإبرته كافيا لتعليم الابن الوحيد. أنى لي الخروج من هذا المأزق الأليم، وأنى لي الفرار من هذه المأساة. كيف أواجه أسرتي وماذا أقول لهم أن أباكم في خسران مبين، لم يكتسب شيئا حتى استقرض من المصرف، وباع حقوله الموروثة أبا عن جد. أ بالدخل المحدود من منتجات الحقل الصغير أدفع القرض، أم أعمل أجيرا في المساء في إحدى متاجر المدينة؟ ومن يتيحني فرصة للعمل؟ وإلى متى أعمل من غير طعام فأدفع؟ يقولون إن المتاجر لا يدفعون الراتب فورا، ولا يحق للعامل أن يطلب أجرته من غير تمام الشهر، فكيف أدفع.. كيف أدفع.. كيف..". كاد المرء أن يخر على الأرض لأجل التفكير وتتوالى الأحزان، واسود العالم أمامه فجلس تواً في ظل شجرة، والمارة كانت تنظره بنظرة استعجاب، وما مضت لحظات حتى خر مغشيا عليه فهرع إليه من كانوا يعرفونه.
أفاق المرء بعد قليل حينما رشوا عليه الماء، وأوصله رجل منهم إلى بيته. وكانت امرأته تذهب إلى الحقل لتأتي ببعض الخضار وتصنع الطعام إذ رأته برفقة رجل آخر فهرعت إليه سائلة: ماذا حدث؟ ماذا قالوا؟ جاسي لماذا لا تتفوه؟ قاطع الرجل المرافق كلامها قائلا: "إنه خر مغشيا عليه في الطريق فرأيناه وساعدناه، ورافقته إلى هنا لئلا يصاب بمكروه". فزعت المرأة وبدأت تئن سائلة: "ماذا أصابك جاسي.. أنت كل شيء لي، أنت روحي وحياتي.. سآتي إليك بالماء.. اغسل وجهك واشرب قليلا.. وبعد هنيهة وصلوا إلى البيت فأتت هي بالماء، وأجلسته أمام الفناء، وغسلت وجهه ورجليه، وناولته الإناء ليشرب قليلا.
بدأت المرأة تنظر إلى زوجها متسائلة متفكرة لكن المرء وقف صامتا ساكنا لعله لا يجد في نفسه قوة للكشف عن الحقيقة، وكان ولده يريحه بمروحة يدوية. وبعد أن مضى نصف ساعة ذهب المرء إلى داخل البيت فرافقته زوجته، ومدد جسده على الفراش يريد أن ينام ليريح قلبه وذهنه من شدة الأحزان المتتالية التي كانت ترهقه وكادت أن تفجر خلايا دماغه. كانت المرأة تساعده في صمت وسكون رهيب، وتخلل رأسه بأناملها لتخفف أحزانه فيخبرها عما حدث.
جاء الولد "نوجوت" إلى أمه يستأذنها أنه يذهب إلى الحقل ويعمل هناك فلا تقلق عليه. ثم ذهب مع المحراث والدلو إلى حقله، والأولاد ينظرون إليه متسائلين: لماذا إنه يذهب اليوم وحيدا؟ إنه يبدو كئيبا.. أين أبوه؟ هل أصابه مكروه؟ ووصل نوجوت إلى الحقل وبدأ عمله؛ يقلع الأعشاب، ويسدد التراب، ويخرج الماء من البئر حتى أرهقته الشمس رغم اصفرارها فجلس متأنيا يغوص في عالم التفكير: ماذا قال له الموظفون في المصرف؟ أ رفضوا التمديد وعاملوه بسوء وازدراء؟ إن أبي غيور، عفيف اللسان، ليس بذيئا ولا متفحشا، لعلهم هددوه كثيرا فاعتصر قلبه وحزن كثيرا. وبينما هو في هذه الحال، نهض فجأة ليستغيث بصديق له في المدينة.
ذهب نوجوت إلى المدينة، وقص على صديقه ما جرى مع أبيه فاعتزم زيارته صباح اليوم التالي، فتهلل وجه نوجوت أنه سيخفف من أحزان أبيه بمساعدة صديقه لكنه لم يخطر بباله أن الطين سيزداد بلة وأن قلبه سينفجر بتوالي الهموم وتعاقب الأحزان. ولما رأى أباه في اليوم التالي معلقا بالمروحة صرخ صرخات قبل أن يقيء دما ويخر ميِّتا: نحن الحراث ونحن الفقراء.. يا ويلاه.. يا ويلاه.. إن الفقير يزداد فقرا وإن الغني يزداد ثراء بلا حساب..
**********
* حاصل على الدكتوراه في قسم اللغة العربية، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، الهند.