فيما ورد في باب فضائل اللّصوص الشّرّفاء
ذكر مولانا المعلّم الأكبر فيما يروي عن الكذّابين والخرّاصين والمدلّسين وأهل الخنا إنّ لصّاً عظيم الشّأن والفتنة والمكر والخبر قد وُليّ أمر العباد والدّواب، وتقلّد مقاليد الحسبة والميزان ثم القضاء، وأنّه قد ملك المشرقين والمغربين بخبثه وسوء مكره وغبن نفسه، وأنّه ما أبقى شيئاً إلاّ سرقه، وادّخره في خزائنه، لكنّه على الرّغم ممّا لحق به من سوء الذّكر، وفحش الأثر، ولعن الفعل، وفضح المؤرخين له بعد أن كشفوا ستره، وسبّوا زمنه، وقدحوا في شرفه وأصله ونزاهته، إلاّ أنّه أبى إلاّ أن يكذّب المكذبين، وينزّه ذمته، وأعلن على الملأ أنّه يعترف بأنّه سارق مجيد، إلاّ أنّه سارق شريف نبيل أصيل؛ فهو قد سرق الحياة والمعاش والأزمان، لكنّه أبى أن يسرق الشّرّف والضّمير والمبادئ؛ ولذلك ترك هذه الفضائل والمكارم موفورة كاملة للعباد الصّالحين كي يتمتّعوا به، ويدركوا بوساطتها كم هو لصّ شريف ابن شريف.
فيما ورد في باب فضل الكذب الكبير على الكذب الصّغير
ذكر مولانا المعلّم الأكبر فيما يروي عن الكذّابين والخرّاصين والمدلّسين وأهل الخنا إنّ الكذب الكبير خير من الكذب الصّغير، وأنّ الكذبات الصّغيرة قليلة الإحسان؛ لأنّها قليلة الإيذاء، في حين أنّ الكذبات الكبيرة مجيّدة مكرّمة عند الخلق والسّاسة؛ لأنّها عملة الكبار والأسياد وعلية القوم، وفي ذلك يرون أنّ عبداً مملوكاً فقيراً كذب سيّده في مسألة حقيرة سأله إيّاه، عندها هبطت منزلة العبد في عيني سيّده، وجدع أنفه، وصلبه في درب العبيد والنّخاسين وأسواق الرّقيق؛ ليكون درساً لمن يكذب على سيّده كذبات صغيرة حقيرة، وهذا ما كان.
أما ذلك الكذّاب الكبير المجيد فقد رُوي في الأثر أنّه رُفع على الأكتاف حتى أصبح سيّد القوم، والمُصدّق عندهم، والرّفيع الشّأن بينهم، حتى أنّهم قدّسوه، ومجّدوه، ثم بنوا له معبداً، وعبدوه، وجعلوا من ملابسه مُتدثراً مقدّساً يتطهّرون به، وبعد أن ألّف لهم كتاباً في مسالك الكذب ودروبه، قدّسوا كتابه، وما انفكوا يكبرونه حتى ألّهوا ذلك الكذّاب الكبير الذي أعدم في الماضي عبداً مستضعفاً مسكيناً؛ لأنّه كذبه في مسألة صغيرة ليست ذات شأن.
فيما ورد في باب مصارع الصّادقين ومهالك الورعين
ذكر مولانا المعلّم الأكبر فيما يروي عن الكذّابين والخرّاصين والمدلّسين وأهل الخنا إنّ شاباً كان قليل الحظّ سيء الطّالع، بلغ من سوء طالعه أنّ انقطع إلى معلّم صالح يعلّمه الصّدق، ويحبّبه به حتى وقع الصّدق في نفسه، وأصبح لا ينطق إلاّ صدقاً، ولا يفعل إلاّ صالحاً، ثم كبر ذلك الشّاب المنكود على هذا الطّبّع المتروك المهجور، لكنّه ما سلك درباً إلاّ أضناه، وما قصد أمراً إلاّ رُدّ عنه بسبب صدقه، وفي آخر المطاف فتك الفاتكون به، وقتلوه في درب ما وهو عائد من صلاة الفجر، وما وجد له نصيراً، ولا دافع عنه عابر في المكان، فكان عبرة لكلّ من بغى الصّدق، وسلك دروبه، وهي دروب تعسة لا تقود إلاّ إلى الموت؛ فالصّدق في دنيا الأوغاد نهايته سوداء.
فيما ورد في باب اختلاف أقدار الصّادقين والكاذبين
ذكر مولانا المعلّم الأكبر فيما يروي عن الكذّابين والخرّاصين والمدلّسين وأهل الخنا إنّ رجلاً عابداً صالحاً صادقاً أحبّ بغيّاً حسناء، فتزوجها أملاً في أن يدفعها إلى دروب العفّة والشّرّف، لكنّها ظلّت تحنّ إلى الخسّة والخيانة، إلى أن هجرته، وهربت مع تاجر من بلاد بعيدة لا يدركها إلاّ القلّة من جائبي الأقطار وعشّاق الأسفار، وتركت خلفها توأمين ذكرين أنجبتهما من زوجها العابد الصّالح، فتعهدهما الأب العابد الصّالح بحسن التّربية، فشبّ أحدهما على ما ربّاه أبوه عليه من الصّدق والصّلاح، في حين نزعت نفس الآخر إلى ورث من عرق أمّه من الخسّة وسوء الأخلاق.
مات الأب بطاعون حلّ في البلاد، وافترق الأخوان ليطوّفا في الأرض عندما ضاق عليهما بيت واحد لا يتّسع لاختلاف طباعهما؛ فكان نصيب الصّالح الصّادق أن يذوق الويل والقسوة والجوع والحرمان بسبب صلاحه وصدقه؛ إذ هجره النّاس بسبب ذلك، وعاش وحيداً حتى انقصف شبابه، ومات في ريعان عطائه كمداً محزوناً.
أمّا أخوه التّوأم، فقد نالت نفسه من كلّ ما اشتهتْ، وطابت الحياة له، وأقبل عليه المُلك والسّعد والغنى، وعاش حياة مديدة، وخلّف رهطاً من الأبناء الأشدّاء على الحقّ، المنتصرين للظّلم، وسادوا، وعاشوا قي خير وأمن ونعيم حتى وافاهم هادم اللّذات ومفرّق الجماعات.
فيما ورد في باب التّاريخ لأهل التّدليس
ذكر مولانا المعلّم الأكبر فيما يروي عن الكذّابين والخرّاصين والمدلّسين وأهل الخنا إنّ خير ما يفعله المدلّسون والخرّاصون والكذّابون وأهل النّقائص أن يستعينوا بأهل القلم ممّن باعوا ذممهم، وخانوا ضمائرهم، واستحلّوا كلّ حرام، وتاقوا لكلّ شهوة مهما كان ما فيها من منقصة.
لقد تداعى أهل الفساد إلى البرّ بهذه الوصيّة؛ فأحاطوا أنفسهم بأهل القلم الذين يزورون الحقائق، وينمّقون الأكاذيب، ويحلّون المفاسد، ويصدّقون الكاذب، ويكذّبون الصّادق، وخير من فعل ذلك هو سيّدنا الأكحل الجربان الذي كان لقيطاً منبوذاً، فتحايل لنفسه حتى ارتقى رقاب العباد دون علم أو فضل أو ميزة أو كرم أو خلق، وعندما أجال نظره فيما حوله، وأطال التّأمّل في حاله، وجد أنّه سيرته سوداء، وأنّ التّاريخ سوف ينتقم منه بالتّشهير والتّحقير، في حين أنّ عدوّه الأكبر عالم الأمّة المجاهد النّقي سوف يُخلّد في أسفار الصّالحين، وينحني له التّاريخ تبجيلاً وتقديراً وتعظيماً، عندها قرّر قراراً حازماً، ونفّذه من ساعته؛ إذ أعدم عدوّه العالم الجليل، وأمر خدمه من أرباب القلم بأن يزوّرا التّاريخ، وأن يسلبوا كلّ فضيلة من عدوّه العالم، في حين أمرهم بأن يجنّدوا أقلامهم لأجل تزوير تاريخه القميء؛ ليجعلوا منه سيّد العلم وذا الفضائل، وأمرهم بأن يطلقوا عليه لقب أبي الهمم.
لقد تلكأ أهل القلم في تنفيذ الأمر لصعوبته، لكنّهم طاروا فرحاً عندما أهال عليهم المال ونفائس الجوهر، وفي أشهر قليلة زوّرا تاريخ السّلطنة كاملاً، وغدا الأكحل الجربان أبا الهمم، في حين بات عالم الأمّة المجاهد النّقي الزّنديق الخائن.
وطفق المعلمون الفاسدون يحفّظون السّيرة المزورّة عن أبي الهمم لطلبتهم المخدوعين.
فيما ورد في باب حسن الاغتنام عند أهل الإفك والبهتان
ذكر مولانا المعلّم الأكبر فيما يروي عن الكذّابين والخرّاصين والمدلّسين وأهل الخنا إنّ من أهمّ ما على أهل الفريّة والإفك والبهتان أن يتعلّموه أن يغتنموا الفرص، وأن يسرقوا الفضل من أهله، وأن يندسوا في الخفاء عندما يلجّ الموت، وأن يخرجوا من جحورهم عند الغنيمة، وخير من أتقن هذا الدّرس هو عمران أبو الظّلام الذي كان قد توافر على البلاغة، وتعلّمها من أربابها، ثم جعلها تجارته الرّائجة الرّابحة، حتى غدا شاعر المواخير والقوّادين، ومن بعد أحسن التّسلّق حتى أصبح كبير كتّاب ديوان القضاء، ثم غدا بعد ذلك الكاتب الأكبر للكتّاب، وصاحب الوزارات جميعها، وقطّع عمره في منافقة سادته، والكذب لهم وعليهم، إلاّ أن قامتْ ثورة الصّعاليك الذين عصف الجوع والظّلم بهم، فعصفوا بالحاكم ودولته وقادته ورجاله، عندها تخفّى عمران أبو الظّلام وأعوانه من المدلّسين في ثقوب الأرض وجحورها.
عندما انتصرت ثورة الصّعاليك كان جلّ المدلّسين قد تشرذموا بين الموت والمرض والضّياع في دروب الأرض، وكانت تنقصهم العبارة واللّغة ليحسنوا التّعبير عن أنفسهم، فتبرّع عمران أبو الظّلام ليكون لسان الثّورة بعد أن كان لسان الاستبداد ويده، وبأقصر الطّرق غدا - من جديد- ذا الوزارات جميعها، ولسان الثّورة، ومُدلّل السّلطة الجديدة الثّائرة على السّلطة الماضية المقوّضة.
فيما ورد في باب مُلح أهل النّفاق والرّياء
ذكر مولانا المعلّم الأكبر فيما يروي عن الكذّابين والخرّاصين والمدلّسين وأهل الخنا إنّ لأهل النّفاق والرّياء الكثير من المُلح والطّرائف التّي تبهج الرّوح، وتضحك البائس المحزون، وممّا يروى في هذا الباب أنّ قاضياً أفّاقاً محابياً لأهل المال والرّشوة قد نفق حماره الأعرج، فأعلن الحداد عليه، وعطلّ النّظر في القضايا المعروضة عليه إلى حين يتشافى من آلام فقده لحماره، واعتكف في بيته لتقبّل العزاء في حماره الأعرج، فانخلعت أدراج بيته من ليلته تلك لكثرة من أتاه من معزّين منافقين ودّجالين، فزاد ذلك من غروره بنفسه، فاشترى حماراً آخر يذكّر الجميع بحماره الفقيد المجيد.
ما مضى شهر إلاّ وخُلع القاضي من منصبه الرّفيع، فما كاد يلزم بيته حتى فُجع بموت زوجته وابنه في حادث حريق في بيت المونة، ففتح بيته للعزاء، إلاّ أنّ لا أحد من أهل المدينة قصده معزّياً له على الرّغم من فظاعة مصابه، في حين عزّاه أهل المدينة أجمعون بحماره الفقيد عندما نفق قبل شهر، وعندما سأل عبداً حصيفاً يملكه عن سبب ذلك، أجابه العبد اقائلاً: "يا سيّدي، إنّهم يعزّون كرسي القاضي بالحمار النّافق، أمّا عندما خسرت الكرسي ما عزّاك أحد؛ فالنّاس تنافق الكرسي ومن يجلس عليه".
فيما ورد في باب أكاذيب الغواني وترّهات الشّطّار
ذكر مولانا المعلّم الأكبر فيما يروي عن الكذّابين والخرّاصين والمدلّسين وأهل الخنا إنّ رهطاً من الشّطّار كانوا قد تعاهدوا على الانقطاع في الصّحراء لأجل السّرّقة والنّهب، حتى ولو اضطر أحدهم إلى أن ينهب أباه، أو أن يسرق زوجه وبنيه، وقد أخلصوا لذلك، فذاع صيتهم في الصّحراء، حتى خشيتهم الأعاريب، وخافهم النّاس، وهربت من وجوههم الوحوش والضّواري، فاغتروا بأنفسهم، وباتوا يسطون على النّاس إمعاناً في البطش، ورغبة في التّسلية والمباهاة، حتى أنّهم ما وجدوا في أنفسهم حرجاً في قطع الدّروب، وسلب الحجّاج والنّساك لأجل رهان أو مقامرة.
كانوا قد تراهنوا على أن يسطوا على مضارب عشيرة غاب عنها رجالها لذهابهم إلى الحرب، وأن يزنوا بنسائها جميعاً من أجل المفاخرة بفحولتهم بعد أن شبعوا تفاخراً ببطشهم.
ما كادوا يدخلون مضارب القوم حتى قتلوا من فيها من عبيد وغلمان مدافعين عنها، واغتصبوا النّساء جميعاً في خدورهن، وعلى فراش أزواجهنّ وأهليهنّ، فما قاومت إحداهنّ، أو رفضت هدر شرفها، إلاّ امرأة واحدة رفضت ذلّ الاغتصاب، وهدر الشّرّف، وواجهت الشّاطر الذي غشي خدرها حتى نحرته بخنجرها، وخرجت على القوم تتبختر تيهاً، وهي تحمل رأسه بيمينها، وخنجرها بشمالها.
إلاّ أنّ الشطّار خشوا أن تضيع هيبتهم في الصّحراء بسبب شجاعة هذه المرأة الحرّة، وكرهتها نساء عشيرتها اللّواتي خشين أن ينفضحن أمام أزواجهنّ؛ لأنّهنّ فرطن بشرفهنّ بسهولة وذلّ، في حين حافظت المرأة الحرّة على شرفها، ولم تسمح بأن تُستباح.
فقرّر الشّطار والنّساء المغتصبات أن يتشاركوا جميعاً في قتل تلك المرأة الحرّة كي لا تفضح بشجاعتها وعزّتها ترّهات الشّطار وتفريط النّساء بشرفهنّ، وتظلّ الصّحراء تترنّم بأكاذيب الشّطار والغواني، وتتكتّم على المصائر السّوداء للحرائر والصّادقين.
فيما ورد في باب من عشق نساء الخنا وما استطاع أن يعشق غيرهنّ
ذكر مولانا المعلّم الأكبر فيما يروي عن الكذّابين والخرّاصين والمدلّسين وأهل الخنا إنّ سيّد الرّجال كان يزعم أنّه مسبار الأخلاق في زمنه، حتى أنّه كان يعدم المرأة من قومه وأهله إنْ ثبت له أنّها تنفّست من هواء تنفّسه رجل ما؛ فقتلّ الكثير من النّساء بتهمة الزّنا دون أن يمسسهنّ بشر أو جان، حتى أنّه لقّب فيما بعد بـذبّاح النّساء، إلاّ أنّ لقبه الشّائع في الأوسط الشّعبيّة حيث درك النّاس والأفعال هو صاحب نساء الخنا؛ فقد علق منهنّ عاهرة من عاهرات الطّريق وعابري السّبيل وأهل الجذام، إذ كانت من الفئات الوضيعة من العاهرات لتشوّه جسدها، وغلبة ذكورتها على أنوثتها، وفظاعة صوتها الذي يكاد يكون صريراً لا صوتاً بشرّياً، إلاّ أنّها كانت بارعة الفحش، مجيّدة لفنون الوصال، وأشكال الجماع، ولذلك فقد تولّع بها زبائن السّوقة والرّعاع من النّاس، في حين زهد بها الأسياد والأثرياء ومحبّو الجمال والأنوثة والدّلال.
لكنّ صاحب نساء الخنا تعلّق بصنانها تعلقّاً عظيماً، ووله بجسدها المهصور المشوّه القزم، وألف صوتها الصّرير، وتولّع بفحشها وبراعتها فيه، حتى ما قبلت نفسه غيرها، وما تحرّكت رجولته إلاّ لها، فانقطع لها يجامعها هو ورهطه، ويقدّمها هديّة ثمينة لزوّاره، ثم هجرها زمناً تقزّزاً منها، إلاّ أنّه عاد إليها مسترضياً لها، وقدّم لها رأس امرأة شريفة من نساء عصره قربان استرضاء لها، فما كان يرضيها إلاّ أن يُراق دم الشّريفات على قدميها ذات الأظلاف العنزيّة كي تغفر لحبيبها المارق جفاه وبعده وتقزّزه منها، وتنتقم لنفسها ممّن يملكن ما لا تملكه من العزّة والشّرّف والأنوثة.
2 - الرّوايات تتضارب عن المعلّم الأكبر الذي خطّ لهم كتاب "أفراح التّدليس ومصارع الصّادقين"، الرّاوية الوحيدة المُجمع عليها هي أنّ هذا المعلّم الأكبر العظيم المؤرّخ المربيّ المصلح هو الذي نقل النّفاق والكذب والافتراء من مواهب وهوايات فطريّة إلى أفعال على أساس علميّ، ومنهج دراسيّ، ومبدأ حياتيّ.
المعلّم العظيم الأكبر هو من حوّل الكذب إلى مُلك، والافتراء إلى سلطة، والنّفاق إلى موضة.
هذا الكتاب هو كتاب مقدّس عند المؤمنين به.
أفراح التّدليس ومصارع الصّادقين هو الكتاب الرّسميّ المعتمد عند حضراتهم.