على عتبة الفاشية
(القصة الفائزة بالجائزة التشجيعية الثانية في الفئة الأولى، فئة الدكتوراه في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
د. طارق أنور *
في الصباح الباكر ليوم مشمش، وضيء النهار من الفصل الشتوي المعتدل، غادر ركب متكون من كهلين وولد مقر إقامتهم واتجهوا إلى محطة القطار الرئيسية لكي يستقلوا القطار السريع المتجه إلى عاصمة البلاد وكانوا قد حجزوا مقاعدهم مسبقًا في الدرجة الثالثة المكيفة، حيث أن رحلتهم هذه كانت مزمعة قبل سفرهم بعشرة أيام. كان عليهم أن يقضوا على الأقل أربعا وعشرين ساعة من هذه الرحلة الطويلة البادئة من جنوبي البلاد والمنتهية بشماله في القطار، بعدئد كانوا سيصلون إلى عاصمة البلاد ومن هنا عليهم أن يغيروا قطارا آخر، يصل بهم إلى منزلهم. كانوا مستعدين تمامًا لتحمل مشقة السفر برحابة صدورهم نظير ما كانوا يطمحون إليه من تحقيق إنجاز علمي، فتح لهم القدر بابه بعد مدة طويلة، كانوا لا يستطيعون أن يدعوها تذهب سدى وتفلت من أيديهم الفرصة التي كادت أن تتسبب لهم الشهرة وتسجل لمدرستهم المجد والذكر الجميل وترفع مكانتها بين العديد من المدارس الأخرى المتساوية بها مستوى وشأنا.
كان قائد هذا الركب رجلا ربعة القامة، باسم الوجه، تعلوه سكينة الصوفي وتشرق في عينيه لمعات مربي الأجيال، وتكسو جبينه علامة سوداء شاهدة على الحفاظ على الصلوات الخمس. كان متناسقا رشيقا، يميل جسدُه إلى نحافته أكثر من بدانته ويزين ذقنَه لحية ذات شعيرات كثة مسترسلة، ممتدة بطولها شبرا. كان قد تجاوز الأربعين من عمره، فنضج عقله و حلب الدهرَ أشطره. كان يدير في قلب المدينة معهدًا دينيًا، ينظمه هو ورفاقه بفضل مساعدات مالية، يتصدق بها عليه وعلى المدارس الأخرى الدينية المشابهة لها أصحابُ الخير والفضل في رمضان وفي مناسبات أخرى عديدة، ينفقها هو كمدير على مستحقيها من طلبة العلم الصغار الذين كانوا قد تركوا عائلتهم في نعومة أظفارهم والتحقوا بهذا المعهد ابتغاء كسب العلم الشرعي وحفظ القرآن الكريم. هذه المساعدات تُدفع أيضا في سبيل سد مستحقات لأساتذة المعهد الذين زينوا صدورهم بأنوار حروف القرآن الكريم، منفقين أعز مراحل عمرهم في مثل هذه المعاهد الدينية المنتشرة في أطراف البلاد، ثم عكفوا على نشر ما تعلموه، مخلصين لله نياتهم ومزمعين على نذر حياتهم في سبيل نشر التعليم الديني، غير آبهين بما تطمح إليه نفوسُهم من ملذات الحياة ومقتنعين بما لديهم من وسائل، قلَّما تلبي حاجاتهم ومتوكلين على الله سبحانه وتعالى بعد العمل المضني والجهد المتعب لتربية الأجيال وإحداث عاطفة الالتزام بمقتضيات وأساسيات الدين في نفوس تلاميذهم.
هذا المعهد قد نال حاليًا وسام العز والشرف، عند ما فاز أحد طلابه بدرجة امتياز في مسابقة حفظ القرآن الكريم، التي عقدتها لجنةُ تشجيع حمَلة القرآن لعموم الهند ومقرها مشائخ فور في مختلف ولايات الهند بهدف اختيار الناجحين منهم وعقد المسابقة المركزية فيما بينهم ثم من سيفوز في هذه المسابقة، يُلقب بأجود حُفاظ القرآن على مستوى البلاد. كانت إحدى مثل هذه المسابقات الولائية تم الإعلان عن عقدها أيضا في ولاية المعهد، فتحمس مديره لها وبدأ يشرف على إعداد شميم الحافظ، أحد تلاميذه الأذكياء بغية تمنيه لمشاركته في المسابقة الولائية. كان المدير مخلصًا تجاه تلميذه، والطالب كان مجدًا في عمله ومرتكزا شديد الارتكاز على تحقيق هدفه وباذلاً كل الجهد في النزول عند حسن ظن القائمين على المدرسة به.
انعقدت المسابقة الولائية في الوقت المحدد، ساهم فيها شميم الحافظ بكل رغبة وحماس وواجه أسئلة لجنة التحكيم رابط الجأش وثابت الجَنان وترك أثرا لا بأس به في نفوس الحضور والمحكمين السادة بصوته الرخيم وحفظه المتقن واسلوب تلاوته المدهش، لم يحجم خلال ذلك ولم يتلكأ، لم يبد أي خوف أو قلق أو دهشة، بل كان خلال العملية كلها كالنهر المتدفق الخرير في سرعته وكالهواء الطري الناعم في رقته ورخامته وكالجبل الصامد المتين في إتقانه وحفظه وكالبلبل الشجي المنشد في هديره وتجويده. أعجب بأدائه الباهر السامعون وانجذب إليه المحكمون كالمغناطيس، فجاءت النتيجة حسب الأداء وفاز شميم الحافظ بدرجة امتياز في هذه المسابقة القرآنية الولائية، ما زاد المدرسة شهرة وصيتا و تسبب لمديرها وأساتذتها المجدَ والذكرَ الجميل وبشر القائمون على المسابقة الولائية المديرَ بقبول ترشح طالبه في المسابقة المركزية التي سيتم عقدها في مشائخ فور على مستوى الهند وقدموا دعوة إليه لحضوره مع طالبه المنتخب وكفيله في تلك المسابقة القرآنية.
كان كفيل الطالب هو أباه الأربعيني، المقري جميل احمد، الذي تخرج بدوره في إحدى كبريات مدارس الهند، حاملا شهادة الفضيلة واختار لكسب معاشه المجال التجاري وانخرط في سلك تجارة الجلود، منشغلا أولا بإحدى مصانع الجلود، ثم فضَّل لاحقا أن يقوم لنفسه بإستيجار دكان للأدوات الجلدية الجاهزة في قلب المدينة ويكسب لعياله وأسرته وافر القوت الكفيل بإكمال حاجاتها الأساسية ويدبر لأولاده أولا التعليمَ الديني ويتمنى أن يكون أحد أولاده الثلاثة حافظاً للقرآن الكريم لكي يكون شفيعا له يوم القيامة عند رب المرسلين. وتحقق حلمه هذا وأكسبه ولدُه الأوسط العزَ والشرف، حيث تم اختياره مساهما في المسابقة القرآنية المركزية. كان مغبوطا بين أقرانه ومعتزا بإنجاز ولده العلمي، جذلاً بما رآه بأم عينيه من احترام وغبطة الحضور على حظه ولا يكاد يطير فرحًا وبشاشة، منذ أن سمع باصطحاب ولده في المسابقة القرآنية.
كان هذا الركب قد وصل إلى محطة القطار المركزية قبل وصول قطارهم بنصف ساعة وبدأوا ينتظرون مقدمه بفارغ الصبر، كلهم كانوا لابسين القمصان الطويلة والسراويل البيضاء والصُّدرات السوداء، على رأسهم قلانس بيضاء مدورة وفوقها أوشحة خضراء مطرزة، اكتسوا بها اتقاء للبرد. وصلوا المحطة ووقفوا أمام لافتة رقمية، تشير إلى وقوف عربتهم المحتمل، متعهدين بأمتعتهم وأحزمتهم، تشرئب أعناقُهم تارة نحو الجهة التي كانت القاطرة ستلوح منها وتمتد عيونهم أخرى إلى زحام الغادين والرائحين، الذين كان الرصيف غاصًا بوجودهم ومتأججا بضجيجهم، كما تحمل أيديهم الحقائب الخفيفة الوزن وعلب الطعام التي كانوا يصطحبونها خلال هذه الرحلة الطويلة وسوف يحتاجون إليها في ثلاث وجبات طعام.
لاح القطار من بعيد فتنفس المسافرون الصعداء واستعدوا لركوبه، وما إن وقف القطار، حتى تأهب الركب لركوبه وكان من حدسهم الصحيح أن جاءت العربة التي حُجزت مقاعدهم فيها ووقفت قدامهم بشكل دقيق، فتحاشوا خلال صعودهم القطارَ من حيصَ بيصَ ونوعٍ من التدافع. دخلوا عربتهم مع أمتعتهم بأمن وسكون مع بقية أصحاب المقاعد المحجوزة وبحثوا عن مقاعدهم واهتدوا إليها بعد برهة. دبَّروا أولا لأمتعتهم ووضعوها تحت مقاعدهم، ثم جلس كل منهم على مقعده: مقعدين جانبيين: التحتي والفوقي ومقعد مركزي فوقي، استأثر به شميم الحافظ، وترك لأبيه ومديره مقعدين جانبيين لكي يقضيا أوقات السفر في النهار جالسينِ معا ومتجاذبين أطراف الحديث فيما بينهما وإذا خيم الليل، فسوف يأويان إلى مقعديهما للاستراحة والنوم. امتلأت العربة بالمسافرين وأخذ كل منهم مقعده فغشيهم الهدوء بعد ان انشغلوا لبرهة من الزمان بالتدافع وحمل الحقائب وترتيب الأمتعة والاهتداء إلى المقاعد داخل العربة. ثم لما صفَّر الحارس وآذن بالرحيل، انطلق القطار وأصبح يغادر الرصيف معلنا بحركية الحياة وعدم الاستقرار الدائم لها ثم ما لبث أن أخذ القطار يُغذّي سيره ويمر بثغور المدينة ومشاهدها الطبيعية ويعبر في لمحات كلمح البصر ضواحيها وأنحائها حتى بدأ يطوي مسافة السفر وبعده طيَّ السجل للكتب ويمضي في قطع الأميال تلو الأميال ويتجه إلى منزله بسرعة محددة له.
كان القطار يتسابق الريح في سرعته، متجاوزًا محطات صغيرة ومتباطئا على الكبيرة منها وحاملاً الركاب على متنه ثم يستأنف رحلته ويواصل سيره ويعيد سرعته كما كان ويقلص مسافات شاسعة. كان المسافرون في هذه العربة يسلكون مسالك شتى، ما بين آخذ لأقساط الراحة ونائم وما بين متجاذب لأطراف الحديث حول عناوين الاجتماع والسياسة ومستمع وما بين مستمتع بأطايب الطعام ومستلذ وما بين منشغل بمشاهد الطبيعة الخلابة ومكب على مطالعة الجرائد والأخبار.
مضت ساعات النهار وقاربت الشمس المغيب واستعد الركب لأداء صلوة المغرب، كل على مقعده حسب التسهيلات المتوفرة لديه، بدون أن يشعر أحدا من ركاب العربة بالانزعاج أو المضايقة، فأدوا صلواتهم المكتوبة، كما كانوا قد أدوا المكتوبتين: الظهر والعصر وجلسوا على مقعد جانبي تحتي لكي يتعشوا معا ويستمتعوا بما توفر لديه من زاد الرحلة. وبينما هم كذلك، حتى صادفوا أمرا عجيبا، لم يتوقعوا حدوثه في الرحلة. كانوا في صفاء الذهن منذ بدء رحلتهم ولم يخطر لهم ببال أن حادثة للتمييز الديني كهذه قد تكدر صفو رحلتهم وتمس كيانهم الشخصي وتشكل تهديدا لحياتهم، ولماذا كان يجول في خاطرهم مثل هذا الخيال ولم يسبق لهم أن يمروا بمثل هذه المأساة الأليمة في بلدهم الحبيب. لم تكن هذه الرحلة أولى رحلاتهم ولم يكن ركوبهم القطارَ ضمن رُكاب ذوي انتماءات مختلفة تجربة فريدة من نوعها في حياتهم. كانوا قد طووا مسافات طويلة قبل ذلك، آخذين من القطار وسيلة للنقل وسافروا في عربات عادية وغير مكيفة مكتظة بمئات وآلاف المسافرين وكسبوا تجارب شتى عديدة للرحلات، لكن التجربة المريرة التي نالوها في هذه الرحلة، كانت هي أشد التجارب قسوة وغرابة لهم وكانت هي أشدها فظاعة وإرهاقا لهم.
كان الركب جالسا على مقعده، إذ اعترضهم شاب بزي القميص والبنطلون وبدأ يهذي ويصرخ فجأة بطريقة عجيبة، كان في نبرته حقارة وفي صوته صراخ وضجة وكان يخاطب الركب ويريده أن يلتفت إلى كلامه، غير أنه في بادئ ذي بدء لم يصغ إلى هفواته ولم يستمع إلى هرائه. كان يصرخ كالمجنون ويلقى على أفراد الركب العديدَ من الأسئلة اللاذعة المغرضة المستهدفة لفئة محددة ويريد أن يفرض وجوده عليهم بإكراه. ولما لم يمتنع هو من الكلام وأصر على الحديث، التفت قائد الركب إليه ودعاه إلى المجالسة والحوار بأسلوب هادئ مثقف وأيقنه على الرد على جميع أسئلته وتهدئة روعه، لكنه أصر على الكلام من طرف واحد، حتى امتقع لونه واستشاط هو غضبا وصب جام غضبه على قائد الركب قائلا:
من أنتم ولماذا تتقنعون بهذا الزي المتمثل في الهوية المنفردة ولماذا ربيتم اللُحى على وجوهكم، ماذا تفعلون أنتم ومن الذي يُمدكم بأموال ولماذا تطعنون في شخصية رئيس وزراء البلاد ولماذا تبدون استياءكم تجاهه ولماذا تكثرون الإنجاب، ولماذا لاتعاملون أزواجكم معاملة حسنة ولماذا تطلقونهن ثلاث تطيقات؟ سلسلة كلامية مملة مزعجة وأسئلة عنيفة منمقة فارغة ودعاية إعلامية مملوءة بالحقد والكره تجاه طبقة خاصة من طبقات المجتمع الهندي، بُدئت تثار منذ عدة سنوات ماضية بهدف تهميش كبرى أقليات المجتمع وحرمانها من الحقوق الأساسية في مجالات التعليم والصحة والتوظيف كمواطنين ومن أجل التفادي من القضايا الساخنة المواجهة للمجتمع الهندي بأسره من العطالة والأمية وسوء الاقتصاد وغلاء كلفة المعيشة وانتشار الرشاوى والفساد في القطاع الحكومي وشيوع الفضائح المالية في القطاع المصرفي وغير ذلك من القضايا الطويلة القائمة. كان قائد الركب قد أدرك مغزى الرجل الطائش، لكنه أراد أن يُفحمه بالمنطق وبدأ يرد على جميع اعتراضاته بأسلوب هادئ علمي ويحاول في تغيير موقفه تجاه الفئة الخاصة أو إعادة النظر فيه على الأقل، لكنه مع ذلك كله، لم ينجح في تهدئة روعه، بل كلما أدار حديثه معه، ازداد هو عنادا وتمردا ولم يكتف هو في النهاية بالحديث، بل أوعده بالقضاء عليه ورفاقه أو إيذائهم عند وصولهم إلى المحطة الأخيرة.
كان الركاب الآخرون في العربة ينظرون إلى هذا الوضع المتأزم نظرة انحياز ولا يريدون أن يتدخلوا في الأمر ولا يمنعون الرجل من المضي في الكلام القادح، حتى إذا تفاقم الأمر وأراد الرجل أن يحصل على تأييد لكلامه من قبل المسافرين الآخرين، التفت إلى سيدة جالسة في نفس القمَرة، -تبدو مثقفة بمظهرها وأنيقة في جمالها وهي ترهف السمع إلى الحديث الداثر بين الرجل وقائد الركب وقد ظهر التقزز والاستياء على وجهها وكانت قد تشجعت قبل ذلك على مقاطعة الرجل مرة أو مرتين - وقال: هل أنت هندوسية؟
أجابته السيدة بهدوء: نعم، أنا هندوسية وأنا أفتخر بذلك، ولكني اعتقد كذلك بأن الهندوسية لا تعلمنا مضايقة الجيران أو المسافرين من غير ضرورة ومن المؤسف للغاية أنك لم تصر على الكلام من طرف واحد فقط، بل هددت مخاطبك ورفاقه بالإيذاء أو القتل أيضا بمجرد انتمائهم إلى فئة أخرى وارتداءهم لباسا، اختاروها لأنفسهم، ما دفعني إلى التدخل في الأمر والرد على كلامك بشكل منطقي. من الأفضل أن تلتزم بحدك ولا تكدر علينا صفو الرحلة الممتعة....في الحقيقة أنك قد أزعجتنا جميعا بكلامك المقذع وأسلوبك الطائش وسلوكك الصبياني...دعنا وشأننا ولا تستخدم لغة التهديد والإيعاد.
تقاعس الرجل من المشهد تدريجيا، عند ما رآى الجو معاكسا له والركاب الآخرين يبدون مواقفهم إزاء سلوكه المشين ويدعمون كلام السيدة المثقفة وشعر بنفسه وحيدا في الساحة، فلم تبق له حيلة سوى الصمت والجلوس على مقعده. أما قائد الركب، فكان لا يستطيع أن يوقن بأن مثل هذا الحادث عرض له في سفره في بلد، تم تأسيسه على مبدأ العلمانية والديمقراطية وحصل على استقلاله بسبب الوحدة الوطنية التي تظاهر بها سكانه من جميع الفئات والأعراق وضحى في سبيله أبناؤه من مختلف الأديان والمعتقدات بالنفس والنفيس، ثم صاغوا في فترة الاستقلال دستورا علمانيا لإدارة البلاد، ضمِن لكل مواطن الحرية الدينية واحتفظ لكل هندى بالإخاء والمودة والمساواة ولم يزل الوطن يعمل على هذه المكونات الأساسية للدستور منذ استقلاله، لذلك ازدهر اقتصاده في فترة لاحقة وتحسَّن وضعه الاجتماعي إلى حد، استطاع بفضله أن ينضم إلى مصاف الدول الصناعية النامية واستمتع ولا يزال المواطنون الهنود بخيرات البلد وثمراتها، لكن لوحظ منذ سنوات ماضية عديدة تغيير جذري في الفكر والرؤية على مستوى الشعب أيضا، قد يؤدي إلى إضعاف خيط الوحدة الوطنية والإضرار بمصالح الوطن والشعب معا.
مثل هذه الأفكار السلبية كانت تركب رأسه، إذ رآي تأييدا له ولرفاقه من قبل إخوانه الهندوس وسمع بأذنيه دلائل مقنعة، قدمتها السيدة المثقفة حتى أفحمت الرجل وأعجزته عن الكلام وحفزته على الالتزام بالهدوء والوقار وعدم إفساد متعة الرحلة، مما دفعه إلى الاعتقاد بأن شمعة العلمانية لا تزال مضيئة وأن مصالح البلاد منوطة بوحدة الشعب وأن الوطن بخير مادام صوت الحق يرتفع وراية الوحدة ترفرف فوق جبال ووديان الأرض.
لم يبرح القطار يواصل سيره طوال الليل والركاب نائمون قريري العيون وهادئي البال، لا يقض مضاجعهم أي كابوس رهيب، حتى طلع الصبح وقارب القطار ثغور عاصمة البلاد ووصل في النهاية إلى المحطة الأخيرة بسلام ونزل الركب أيضا مع بقية المسافرين واتجهوا إلى منزلهم بأمن وعافية، معتبرين ما حدث معهم خلال الرحلة كأنه أضغاث أحلام.
**********
* حاصل على الدكتوراه، في مركز الدراسات العربية والأفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند.