كاتبة سورية
لم أفكر قبل هذه اللحظة في المعنى الحقيقي للحياة، وللموت، رغم أنني واجهت في رحلتي نحو بلاد الضباب الموت على نحو مخيف، كانت تبدو فيه فرص نجاتي مساوية تماماً لفرص موتي، لكن هذا التساوي بين الحياة والموت جعلني أراهن على الحياة، وأمد عينيّ بعيداً نحو السماء، أطلب عمراً مديداً، وأحلم بأنني سأكون ما أريد، وسأمسك بتلابيب حلمي يوماً ما.
الآن فقط وأنا بين جدران أربعة، يفصلني عن الموت وقت مهما زاد فهو قليل جداً، أنتظر قدري، موقن في أعماقي بأن النجدة لن تأتي، بعد أن طال انتظاري لها، أو ربما تأتي متأخرة بمقدار آخر نفس أتنفسه تغادرني الروح بعده، أفكر في معنى الموت، ومعنى الحياة، أفكر في سؤال فلسفي لا إجابة له: لماذا خلقت؟ وفيم أموت؟ وما بين البداية والنهاية...ما هي الحكمة من وجودي على هذه الأرض؟!.
لا أدري من أين واتتني كل هذه الشجاعة لكي أنتظر الموت في غرفتي، وأتصل بأهلي وأصدقائي مودعاً كمن هو على شفا رحيل، وليس قاب شهيقين وزفير واحد من الموت.
لا أدري أيضا من أين واتاني كل هذا الجبن لأتسمر في غرفتي بانتظار النهاية.
تمر حياتي كشريطٍ سينمائي أمام عينيَ، مدرستي الابتدائية في الحي الذي عشت فيه في قريتي الوادعة خربة غزال، أصدقاء الطفولة، الثياب المدرسية، المدرسة الإعدادية، مدير المدرسة، مدرس اللغة العربية، الوجوه المتململة في الصف، المدرسة الثانوية، النشيد الوطني، وتحية العلم الصباحية، الطريق إلى المدرسة، بنت الجيران التي عشقتها حتى خلت أن الحياة بدونها مستحيلة، حواري دمشق، الجامعة. وما أدراك ما الجامعة!! الحرب في سوريا، الحواجز التي أتعبت نهاراتنا رواحاً وغدياً ، ثم القرار الأخير...الرحيل.
لم يخطر في بالي وأنا أعتنق الرحيل خياراً لا بديل عنه أنني كنت أمشي باتجاه الموت، كنت أعتقد أنني أهرب بعيداً عنه ما أمكنني، كنت أهرب من الجندية الإلزامية التي تعني فيما تعنيه على أرض الوطن أن أتحول إلى مشروع نعوة وعزاء، كما هم أصدقاء الطفولة الذين ذهبت بقلب مثقل بالهم والحزن لمواساة أهليهم واحداً تلو الآخر، بعد أن تم فرزهم إلى النقاط الساخنة، قبل حتى أن يستعدوا لذلك، وهناك عند النقاط الساخنة تساقطوا تباعاً، وجلبوا إلى بيوتهم جثثاً هامدة، مع تعويض مالي ضئيل يهين كرامة الجثة قبل الأهل.
أراهن أن أحداً من أبناء المسؤولين لن يكون في المناطق الساخنة، ولا حتى الباردة، بل هم في بيوتهم تدثرهم أمهاتهم في ليالي البرد، لم يشعروا بالغلاء، ولا بنقص المواد الغذائية، لم يخشوا الجوع، ولا تشردوا عن منازلهم، ولا نال البرد من فرائصهم كما حدث معنا جميعاً.
المواطن فقط.. المواطن المسكين الذي لا هوية له، ولا حق داخل وطنه هو من تشرد وجاع وخاف، وفي آخر الأمر رُمي بأولاده أمام عينيه على الخطوط الساخنة دفاعاً عن وطن نسي فيما نسي أن يحفظ لهم ماء وجوههم.
جاحد هو هذا الوطن الذي يدلل بعض أولاده، ويأكل بعضهم الآخر، يلتهمهم كما الغول، ولا يبقي من آثارهم إلا عويل الأمهات، والدمع الأخرس لأبٍ يحاول أن يبقى متماسكاً كرجلٍ حتى آخر لحظة.
أشم دخان الحرائق المشتعلة في البناء، أشعر بالدفء الذي تفرضه أسنة اللهيب التي تأكل البناء العالي بسرعة مخيفة، وتنتابني قشعريرة لمجرد أن يمر في رأسي أنني سأموت حرقاً، يا ألهي: هل هربت من الموت رمياً بالرصاص، ونجوت من الموت غرقاً، لأموت محترقاً؟
سيضحك المسؤولون في بلدي شامتين: هربت من الجندية ها؟؟ تفضل ومت حرقاً ..
أخطأني الموت مرتين، مرة في بلدي عندما ركبت جياد الرحيل هرباً من موت محقق له ألف وجه ووجه يلاقيني به، ومرة وأنا أهرب في القوارب التي تسير نحو الموت أكثر مما تسير نحو النجاة، وعندما اعتقدتُ أخيراً أنني نجوت من براثنه، أطبق عليّ من حيث كنت أظنني في مأمن منه.
من المضحك أن أكون في بلد متقدم، وفي عاصمة كلندن، وأموت بسبب تقصير في إعدادات الأمان في بناء كغرين فيل، يزهو باستطالة سبعة وعشرين طابقاً، ألأنه بناء مخصص لذوي الدخل المحدود لم يُعطَ أمر تدابير الأمن والسلامة فيه الأهمية اللازمة التي كانت كفيلة بانقاذ البناء وأهله؟!!
أقترب من النافذة، وأرى طفلاً يسقط من البناء باتجاه الأرض، لا بد أن أمه ضنت بجسده اللين على النار، فصرخت بها: التهميني لو شئتِ لكنك لن تصلي إلى ابني أبداً، أي قلب قلبها وهي ترمي به بعيداً عنها لتهبه الحياة، وتستأثر بالموت كما لو كان رفيقاً محبباً؟!!.
أرجو من الله أن يكون هناك على الأرض ما أبقاه سالماً.
الدخان يتسرب من تحت الباب، ومن الشقوق..
البارحة فقط كنت أخبر صديقي عن فرحي بدراسة الهندسة في جامعات لندن، قلت له أنني كنت سعيداً وأنا أدرس الهندسة في سوريا، ولم يخطر في بالي حتى في أشد لحظات الحلم جموحاً أن أفكر في أنني سأحمل شهادة الهندسة من بريطانيا.
أخبرته وقتها أنني سأعود وأبني وطني الذي عيث به فساداً ودماراً.
قلت بأنه على جيلنا أن يتحمل مسؤولية البناء، طالما أن جيلاً سبقنا عرف كيف يدمر الوطن بطريقة لا أخال أنه ستقوم له قائمة في وقت قريب.
قلت أيضاً أن حكمة الله قضت بخروج معظم الشباب، ليعودوا بعد حين إلى ربوع الوطن، وهم أكثر خبرة، وتفتحاً، ودراية بما يحتاج الوطن ليقف مرة أخرى حصاة في حلق الأعداء.
لا أريده مجرد حصاة. أريده جبلاً شامخاً شموخ قاسيون.
كم هو جميل قاسيون في مساءات الصيف، والنسائم الدافئة تقبل وجوهنا بحرارة لا تشعر بها إلا في نسائم بردى المحملة برائحة الياسمين..
هل حملتْ شجرة الياسمين في حارتنا من الزهر الأبيض الرقيق ما يكفي ليطغى برائحته على رائحة البارود يا أمي؟
أنظر إلى الساعة، مرت ساعتان وبضع دقائق مذ عرفت أنني محتبس في بناء يحترق، وأن مصيري بات معروفاً، استطاع أخي- ولله الحمد- أن يخرج، وحاصرني الدخان فيما كنت أتبعه محاولاً النزول، فأجبرني على العودة إلى غرفتي.
لم ينتبه أخي إلى غيابي، ظنني وراءه، وعندما استدار ولم يجدني كلمني عبر الجوال، وعلم أنني عدت إلى غرفتي بعد أن حاصرني الدخان بكى، ورجاني أن أحاول النزول، لكن ذلك كان ليعجل حتفي، لماذا عليَّ أن أتجه لملاقاة النار؟ ألا يكفي أنها تسير بسرعة نحوي؟!
سأكلم أمي وأبي، من أولى منهما بسماع آخر كلماتي؟!
ومن لي الآن بدعائهما يخفف عني وعثاء النار ولهيبها؟
الرنين المتقطع لا يطول، يبدو أن أمي وأبي ينتظران مكالمتي، ربما يحدوهما أمل بأنه قد تم انقاذي، يظنان أنه في بلد متقدم كلندن لن يطول الأمر قبل أن تصل إليَ فرق الإطفاء، وتأخذ بيدي، وتخرجني سالماً غانماً، وأن هذا الحادث سيغدو ذكرى سيئة، أخبر بها أولادي، وربما أحفادي لاحقاً.
صوت أمي تنتحب...أنفاس أبي تصلني عبر جهاز الجوال
آه يا أمي:
لم يقرضني الوطن بما يكفي لأرد جميلك وجميل أبي...ولا الحياة فعلت!!
أمي.. أبي..
النار وصلت إلى باب بيتي،
لا أمل لي في النجاة
أحبكما كثيراً
صوت نحيب أمي يعلو ويعلو حتى يقطع نياط قلبي، أريد أن أطلب منها ألا تبكي، أريد أن أطمئنها أن من يموت حرقاً شهيد لا محالة، وأن هناك على الضفة الأخرى من الحياة مكان أجمل، وأكثر أمناً، وأنني سأكون في كنف الرحمن... لكنني لا أقوى على الكلام، شيء ما يكبلني بقوة، فلا أستطيع أن أحرك جارحة من جوارحي...حتى لساني...الدخان يغمر الغرفة، أشعر برئتي تحترق، سعال شديد يقتلع رئتي من مكانها، ألم هائل في رأسي يفتك بي، صور كثيرة تتزاحم فيه، تتزاحم...حتى لا أستطيع أن أفك طلاسمها، الملامح تختلط ببعضها فلا أستطيع أن أميز هل هذا وجه أبي يرتسم في رأسي؟ أم وجه أمي؟ أشكر الله دون صوت أن أخي نجا من الحريق، فثكل واحد كافٍ ليمزق قلب أمي، تتداخل الألوان أمام عيني بقوة فلا أعرف لها اسماً ولا صفة. ثم تختفي كلها دفعة واحدة، لا شيء سوى البياض يملأ رأسي الذي صار ثقيلاً بما يكفي ليلقي بي على الأرض ، كل الأشياء حولي اختفت...ولم يبق سوى صوت نحيب أمي .