السكرتير
(القصة الفائزة بالجائزة الأولى في الفئة الثانية، فئة الماجستير في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
محمد عدنان *
أنا ممن يحلو لهم مراقبة الأحداث، وأحب النظر إلى الآخرين، وخاصة زملائي في الشركة التي أعمل فيها، و هي شركة "برولائت" يمتد نشاطها في جميع أنحاء الهند، وأنا أعمل في هذه الشركة منذ سنتين؛ لكن خالدا أغرب شخص رأته عيناي، وخالد هو سكرتير المدير، والمدير يتبدل من حين لآخر، و نحن نظن دائما أن المدير الجديد سيستبدل خالدا بشخص آخر يثق به؛ لكن الأيام تمر، والأوقات تمضي دون أن يبدله المدير بشخص آخر، سرعان ما يكتسب خالد ثقة المدير الجديد، ويسيطر تماما على عواطفه، ويقنعه بكفاءته و قدراته الخارقة، والأعجب من ذلك أننا نرى خالدا وهو يحمل بيديه حقيبة المدير، ويمضي خلف المدير كالتابع الأمين الوفي.
وأنا أعجب دوما شديد العجب، كيف يستطيع شخص صالح أن يحظى بحب مدير جديد ويرضي كل عهد جديد ويساير كل مبدأ؟
وأنا أتذكر خالدا جيدا، جاء هذه المرة مدير جديد وهو معروف بتمسكه بدينه، وتشدده في التقاليد والعرف، وكان المدير جادا وصارما، وخالد كما نعرف هو شخص متفتح لا يستغني عن الويسكي، والغناء والرقص وهو شغوف بالنكات البذيئة وسرد الفضائح التي تفوح روائحها في الأوساط الخاصة! فرأيت وكنت في مكتب السجل أن خالدا قلق متوتر شاحب، وملامح وجهه تنبئ عن ألم شديد، فقلت لنفسي.... لكل أجل كتاب ولكل عمر نهاية، وهذه بداية النهاية للسكريتر البارع.
وذات مساء كنت جالسا في غرفتي، ودخل خالد عليّ فجأةً، لم يكن من عادته أن يأتي إليّ في هذا الوقت ووقف عندي، وطلبت له الشأي فأبى أن يجلس وكان يتجول في الغرفة الضيقة التي فيها كنت أنا ويحدثني دون أن يسدد نظراته إليّ وتمتم في حسرة.... كل شيء إلى زوال.
فدقّ قلبي وشممت من رائحة كلماته القليلة كآبة القنوط والهزيمة وظهرت من عينيه مذلة وهوان قاتل وانحرفت زاويتا فمه إلى الأسفل كمن يوشك على البكاء!...... فقلت..... دع الأمر لله يارجل....
فالتفت إليَّ وقال في حزن شديد..
مللت من الحياة... هي أصبحت ثقيلة على قلبي..
قلت...ماعهدتك هكذا....
فشرد إلى بعيد وهمس...
أنا على سفر مستمر.. كل لحظة أحزم أمتعتي.
فقلت أنت لم تغادر الشركة منذ خمس سنوات كما أعرف.
قال.... إني أقصد سفرا من حال إلى حال، كان المدير الأول كذا وكذا والثاني كذا وكذا والثالث والرابع أيضا....
قبل أن أرد عليه بكلمة قال... هكذا تمر أيامي من حال إلى آخر دون هدوء وسكون.
قلت له دون أن أطيل التفكير لم لم تترك في البداية؟
قال: لقمة العيش والأفواه الجائعة.. التي تنتظر كل وقت.
تركني خالد في حيرة وذهب والحقيقة أن شماتتي نحوه أخذت تتضاءل وحقدي بدا تافها صغيراً وشعرت بعطف بالغ نحوه، ولم لا أذوب شفقة عليه وأنا أرى شحوب وجهه وعينيه الحائرتين وأتصور الأفواه الجائعة التي حدثني عنها والمستقبل المرعب الذي ألمح إليه...
والأيام تمر والساعات تمضي وكل موظف يقدم في الشركة خدماته ومهاراته على المدير الجديد وخالد يؤدي عمله في صمت ويأس وأدب وحزن...
وفي اليوم الخامس جاء خالد مصادفة عليّ واستقرض مني خمسين ألف روبية.
قلت: مستحيل.
فدُهش لجوابي لكنني أسرعت موضحا:
خذ ماشئت؛ لكنني لا أصدقك، كننا نظن أنك ترقد على كنوز من النقود.
فدمعت عيناه وكانت دموعه رداً مفحماً على تساؤلاتي، ومددت يدي إلى حقيبتي التي وضعت فيها النقود لغرض آخر، وقدمت إليه في حياء وأسى.
هو حدثني عن كثير عاناه من المصاعب في الشركة فأخفيته في صدري والآن أشعر تجاهه بحب جارف وتعاطف غريب على أحزانه وتمتمتُ:
هيهات يا خالد لن أتخلى عنك وأنت تظهر ندما لو وزع على آلاف العصاة لوسعهم.
ورفع إليَّ وجها آسفاً وأردف:
مللت النفاق، وكرهت الأقناع الزائفة...حياتي أحقر حياة، والفقر أفسد كل المعاني النبيلة فيّ..
وابتلع الخالد ريقه وقال:
أين أذهب؟
لا أذهب إلا إلى الله.
فوقعت الصداقة بيني وبينه، وزرت بيته وزار بيتي، وترك الخمر وأخذ يواظب على الصلاة وأصبح رجلا يشبه خالد القديم في قيمه وسلوكه، ودُهش كل من في الشركة لأمر جديد أخر، لقد وقع خلاف بين خالد والمدير يوما، واحتدم النقاش بينهما، وسمع من في الشركة صوت خالد وهو يقول في ثقة وقوة غير مألوفة:
أنا لا أخاف منك. رزقي ورزقك على الله؛ لكن ابتسم المدير وأقبل نحوه في بشاشة وقال له:
أنا فخور بك يا خالد.. أنت رجل مؤمن.. ذو كرامة...إن الفيصل بيننا هو الحق...إنني أكره أولئك الموظفين الذين يؤيدون رأيي لأني مدير...وقد أكون على خطأ، إني أفتخر بزمالتك وصداقتك...لكن حذار أن ترفع صوتك هكذا مرة أخرى...يجب أن تناقش بهدوء.
طأطأ خالد رأسه قائلا: أنا آسف..
لكن خالدا لم يعد إلى الشركة، وقد انتصف الليل والساعة قاربت الثالثة، ركب السيارة الصغيرة مع أسرته سائقا على الشارع المرصوف اللامع بين دهلي ولكناؤ يمتد هادئا لا صخب فيه ولا ضوضاء، والساعة قاربت الرابعة وأضواء المدينة لم تزل تتوهج في قلب الصمت والظلام...
كان في طريقه إلى لكناؤ، فجأة حدث الصدام بين سيارته وسيارة أخرى كبيرة، شعرت بألم قاتل وحزن بالغ......يا إلهي ما هذا الذي جرى... روح خالد انتقلت إلى رحمة الله، آه...لقد مات وكان في جيبه بعض النقود وفي الجيب الآخر مصحف صغير.. عاش غريبا ومات غريبا.
**********
* طالب الماجستير في مركز الدراسات العربية والأفريقية، كلية اللغة والأدب والثقافة، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند.