نصيبي
(القصة الفائزة بالجائزة الثانية بالمناصفة في الفئة الأولى، فئة الدكتوراه في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
محمد مظهر *
كنت شابا مجدا طموحا تخرجت من جامعة جواهر لال نهرو بنيو دلهي مهندساً بارعا وما عرفت غير العمل وما نظرت عيناي غير طريق المستقبل الناجح، وبالفعل ركضت في هذا الدرب حتى بلغت درجة " مدير أعمال " وقد وصلت الى الثامنة والعشرين من عمري وأنا مستغرق هذا الاستغراق في عملي. وإذا بغتة جاءت اللحظة الحاسمة حينما فكرت في عمري وكدتُ أن أغشى بهذه الفكرة. واستحوذتني فكرة واحدة وهي فكرة الزواج.
ودهش أصدقائي عبدل، فهيم وذاكر وغيرهم لرنين هذه الكلمة من فمي، فهم لم يسمعوها قط مني ثم سئلت كيف أنتم عرفتم زوجتكم؟ وكانت الإجابات مختلفة، فمنهم من قال: " رأيتها في سهرة عند بعض الأقارب أو الأصدقاء، ومنهم من أجاب: قابلتها في سوق خيرية فأعجبتني، والآخر قال: قد رأيتها في كافتيريا جامعتنا. واخترت هذه الأساليب جديدها وقديمها، وذهبت الى الطرقات والشواطئ والاسواق والكافتيريا. ولكن ما نجحت. فطلبت الخاطبة أن تبحث لي عن زوجتي، بعد تردد قبلت واتفقت على مساعدتي وعرضت طلبتي، ووصفت لها أوصاف فتاة حلمي. فمضت المرأة واختفت أياما ثم عادت ومعها سجل حافل بأسماء الأسر، وملف يضم عددا من الصور الفوتوغرافية لفتيات على كل طراز. فوقعت في حيرة جديدة: كيف أتخير وأيهن أختار؟ ثم خيل إلي في تلك اللحظة أن هذه الفتاة هى امرأتي ونصفي وحلمي. وكنت أفكر كل وقت هل هي تكون من نصيبي أم لا، وكنت واثقا بأن صورتها هي صورة الفتاة التي أبحث عنها رفيقة الدرب لحياتي. ولبثت أفكر في ذلك طول مسائي وتقدم الليل وأردت أن آوي الى فراشي ولكن النوم طار عن عينَيَّ طول الليل حتى طلع الصبح. وانتصف النهار وجاءت الخاطبة تحمل صورة الفتاة في يدها. ثم قالت قد قبل أبوها وأوصاني بأن أكون حريصا على الذهاب في الموعد المحدد بغير إبطاء ولا تأخير، وارتديت خير ثيابي، ووقفت أمام المرآة وضعت منديلي الحريري في جيب الصدر.
وخرجت من بيتي مغتبطاً مسروراً، فنزلت الى الطريق قاصدا بيت العروس، وسرت في الشارع وكل شيء فيه يترآى لي في بهجة وسرور، الدنيا أمامي تترآي جميلة كأجمل ما تكون. كانت مثل هذه الخواطر تجول في ذهني وانا واجهت مفترق طرق وإذا فجأة جاءت السيارة وصدمتني، فوصلت إلى المستشفى ولا أدري كم من الزمن مضى على إغمائي حتى أفقت، ووجد ت نفسي على سرير المستشفى. فرأيت طبيبا وممرضا وممرضة في ثيابهم البيضاء، وقد علمت أنه تم الإجراء لي عملية " جراحية “لضلع مكسور.
ثم ألقيت نظري إلى اليسار واليمين قد وجدت باقات من الورود والأزهار الغالية في الأواني، وقارورات فاخرات من ماء " الكلونيا “وصناديق ثمينة مفعمة بالحلوى ومملوءة بالسجاير. فسألت الطبيب بإيماءة من عيني عمن أحضر كل هذه الهدايا.
فقالت الممرضة: " ممدوحة فرحين تأتي كل يوم لتسأل عن صحتك وهي في كل مرة تأتي بالأزهار الجميلة، وتضع النقود في أيدي ممرضات بسخاء، وأنها كانت في ساعات الخطر الأولى تسأل عن تطورات حالتك في جوف الليل بالتليفون عدة مرات. وأنها كانت موجودة أثناء " العملية الجراحية" منتظرة في حجرة مجاورة كي تطمئن عليك. دفعت نفقات كل ذلك من جيبها بدون تردد. وأن المال تسيل من بين أصابعها كالماء في هذا المستشفى من أجلك وختمت الممرضة حديثها قائلة ببساطة:
طبعا زوجتك إنسانة رائعة، وخرجت من الحجرة مسرعة، " وسألت في نفسي" زوجتي؟
لعل هذه الفتاة التي يحسبونها هي زوجتي ليست في حقيقة الأمر سوى تلك الفتاة " العروس " التي كنت ذاهبا لخطبتها، وانتظرت حتى جاءت الممرضة فقلت لها: أريد أن أرى زوجتي، فأجابت الممرضة بأنها لم تحضر منذ يومين. ولبثت في انتظارها ثم التفتت الى الممرضة قائلا:
اسمعي أرجوك إذا سألت عني " ممدوحة فرحين" بالتليفون في المرة القادمة، فأخبريها قد حدثت لي نكسة، وأني لن أعيش أكثر من ساعتين، فترددت الممرضة. فرشوتها بورقة مالية. ومضى يومان وإذا الممرضة تدخل عليّ مهرولة لاهثة وهي تقول: تكلمت، صحيح؟ تكلمت؟ نعم وهي قادمة بعد دقيقتين. فلم أدرما أصنع من شدة الفرح.
وخرجت الممرضة تستقبل القادمة ولم يمض قليل حتى سمعت صوت المرأتين فأغلقت عينيي نصف إغلاق. فدخلت " زوجتي " المزعومة وتسمرت بالعتبة تنظر الي شاحبة الوجه. وأنا ذا أمام امرأة جديدة لم أرها قط في حياتي، ولا أدري عنها شيئا. فليست هذه المرأة بالعروس التي كنت ذاهبا لخطبتها. وإذا الممرضة تدخل وقدمت اليها مقعدا بجوار السرير، وانصرفت في الحال. ومر كل ذلك مرورا خاطفا، فلم أشعر بالحسناء، ولم يكن من اليسير أن يجد أحد منا الكلام الذي نبدأ به. فوقعنا أول الأمر في صمت عميق محرج. ثم قلت، حياتي شيء مهم عندك؟ أني مت حقيقة وانتقلت الى جنة الخلد.
فقالت لا تقل هكذا، أنت من حسن الحظ حي. لأنك لو كنت مت ودخلت جنة الخلد، لكنت أنا دخلت السجن.
السجن؟ وما المناسبة؟
الآن أنا أعترف لك يا سيدي بجريمتي. أنا التي صدمتك بسيارتي. واني بالطبع متأسفة جدا ولكن القدر أقوى منا ومن إرادتنا. كنت مسرعة وهذا خطأ مني ولا شك ولكني كنت مدفوعة برغبتي في شراء ثوب حريري رأيته في الصباح وخفت أن تسبقني الى شرائه امرأة أخرى. وعندما مرت العجلات على جسدك. لم أقف ومضيت في السير بعين السرعة. لا عن قسوة مني ونقص في المروءة. بل عن خوف شديد استحوذ عليّ لقد هربت من جسدك الملقى على الارض. ورأتني والدتي في اضطراب وتوتر شديد، وقصصت عليها ما حدث، فنصحتني بأن أخبر والدي بكل شيء. وهو من رجال القضاء. فلما سمع والدي القصة، نصحني أخيرا أن أتتبع حال المصاب على الأقل وأن أعمل على علاجه وإنقاذه. فانه إذا شفي لن يقع على من العقاب أكثر من غرامة مالية.
فقلت لها: يا لك من مجرمة أثيمة كسرت ضلعي، وأضعت خطيبتي، وبددت أحلامي! وكل هذا لن تعاقبي عليه بأكثر من غرامة مالية. أنا شفيت وما قيمة شفائي؟ أن موتي الآن خير من حياتي. لم تكن من أجلي ولا خوفا علي، بل خوفا على نفسك من الحبس؟
اسمعي أيتها الآنسة أو الزوجة المزعومة.
الزوجة؟
هل أبلغت الحكومة بأنك أنت الجانية؟
لم أبلغ بعد لقد رأيت أن أنتظر حتى تشفى.
وإذا كنت مت؟ كنت ذهبت وقدمت نفسي للشرطة.
فقلت أيتها الجانية: هل تريدين حكمي أو حكم المحكمة؟ فقالت حكمك، فقلت لها حكمت عليك بالحبس. أتريدين حبسي في أحضان الزوجية؟
فنظرت إليّ وابتسمت ابتسامة المحكومة علي ورضيت بالحكم. هكذا تزوجنا وانتهت القصة.
**********
* باحث الدكتوراه في مركز الدراسات العربية والأفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند.