كان قد تقرّر أنّ زواجها سيعقد بعد ستة أشهر من الخطبة، وكان أبواهما قد رضيا بأنهما سوف لا يتبادلان الرسائل خلال هذه الشهور الستة فحسب، بل يلتقيان ويتجولان مجتمعين، لكي يتعرف أحدهما على الآخر ويتقرب منه.
ولم يكن قد مضى بعد ذلك الاتفاق إلا شهر واحد حتى علمت "مُكتا" أن الشيء الذي راق "سمير" أكثر من أي آخر هو شعرها الطويل الفاحم، شعرها الذي يلامس ركبتيها تحت خصرها إذا كان مضفورا، وكان يغطي ظهرها برداء حريري أسود إذا كان مسترسلا، أخبرها بذلك صديق لـ "سمير" كان من أصدقاء عائلتها أيضا، وكان يختلف مع قرينته إلى منزلها من حين لآخر. وهذا الصديق وزوجته هما اللذان بواسطتهما بدأ حديث خطبتها لسمير، وكانا بمثابة جسر بين العائلتين بعد انعقاد الخطبة كذلك، وهما اللذان كانا قد أخبرا بأن "سمير" وأبويه وأخويه عندما رأوا "مكتا" عقدوا في منزلهم اجتماعًا خاصا قبل الإيجاب بـ "نعم"، وكان هذا الصديق وزوجته هما الآخران يشهدان هذا الاجتماع. كان كل واحد يبدي رأيه في حق "مكتا"، وكان الحديث يجري حول لون "مكتا" وملامح وجهها وقامتها وشخصيتها وميزاتها الأخرى، وفي نهاية الاجتماع بدأت عملية الاقتراع، بدءوا يعطون كل صفة فيها درجات تستحقها.
انتبهت "مكتا" وأصغت لحديث الأرقام وسألت قائلة:
"كيف تمت عملية الترقيم يا عم؟"
إنهم حددوا مائة درجة لكل صفة، وكان كل واحد منهم يعطي كل صفة ما تستحق من الدرجات وكان من المقرر أن تجمع الأرقام ويستخرج معدلها، وعلى ذلك فكانت درجات كل صفة على النحو التالي:
القامة: 80 في المائة
الملامح: 70 في المائة
نعم! طيب، قالت أمّ "مكتا"
اللون: 50 في المائة
أجل، ذلك خطأ، فليس لونها سيئا بهذا القدر، وجهت أم "مكتا" اعتراضها بقوة.
أسلوب التكلم: 70 في المائة. تقدم العم في حديثه دون أن يبالي باعتراض أم "مكتا"
وأما الشعر فكانت أرقامه مائة في المائة.
حسن جدا أي والله، صرخت "مكتا" قائلة.
نعم يا مكتا! لقد أعطى كل واحد شعرك مائة في المائة، بل إن "سمير" أعطاه مائتي في المائة.
وتعالت ضحكة مجلجلة، وشعرت "مكتا" كأن شعرها ليس شعرا وإنما هو تاج أو أكليل، وإنها ليست فتاة عادية بل هي ملكة معظمة فدفعت بكبرى ضفائرها على ظهرها في دلال وجعلت الأخرى على صدرها وانطلقت إلى حجرتها، قائلة في نفسها: "سمير" معجب بشعرها لدرجة أنه أعطاه مائتين في المائة!!
وفي اليوم التالي كانت هي على موعد مع "سمير" لتذهب إلى صديقة لها كانت قد دعتها على مائدة الغداء. كانت صديقتها هذه بيضاء اللون حادة الملامح أجمل منها بكثير، وكانت تحمل شعراً كشعر الفتيان، وكانت تنصح "مكتا" أيضا بذلك دائما، وكانت تقول لها:
"قص شعرك يا مكتا أو قصريه، إلى متى ستجملينه وتنفقين عليه من وقتك وعنايتك؟ إن هذا الشعر الطويل سيشكل لك عقبة وسيصبح صداعا لرأسك".
لكن مكتا لم تعتن بحديثها قط، وإنما كانت ضاحكة دائما.
وفي أثناء عودتهما من منزل الصديقة قال سمير: إن صديقتك هذه ازدادت حسنا وجمالا لو أنها لم تقصر شعرها. إنها تحاول بقصر شعرها أن تتشبه بالرجال دون جدوى.
كانت مكتا تعرف أن "سمير سيتأثر بجمال صديقتها، ولذلك كانت مستعدة من ذي قبل لسماع مدحها بلسانه، لكن "سمير" لم يكتف بالثناء عليها فحسب بل قد استهدفها للسخرية أيضا، الأمر الذي أقنع "مكتا" وأرضاها لدرجة ما، حيث إن استنكار "سمير" لشعر صديقتها الرجال كان يعني في الوقاع ذاته ثناء لشعرها هي الطويل ولجمالها كذلك، حقا إن شعرها الطويل كان أغلى ثروة عندها.
تذكرت مكتا أنها كم أولت شعرها من اهتمامها وعنايتها، وكيف رعته وربّت وصرفت له من جهد عظيم.. تسرحه كل ليلة وتغسله كل يوم وتوصل الدهن بالأصابع إلى جذور الشعر وما إلى ذلك.. وقد كلل الله جهدها فكان شعرها الطويل سببا في زيادة جمالها وبهائها.
منذ أن سمعت مديح شعرها بلسان "سمير" غمرتها نشوة غريبة، نشوة يشوبها الفخر وشيء من الكبر أيضا، وكانت هي لا تتردد في إبداء ذلك حتى أمام سمير نفسه. ومع هذه النشوة والسرور مضى الشهر الثاني من الخطبة كذلك.
ذات يوم استيقظت "مكتا" من نومها في الصباح فوجدت على وسادتها عدة شعرات طويلة... وقفت مندهشة وأخذ قلبها يخفق بشدة. هل بدأ شعرها يتساقط؟ جمعت تلك الشعرات من وسادتها بقلب خافق وأيد مرتعشة، وظلت جالسة على فراشها برهة طويلة والشعرات بيدها. إنها كانت قد لاحظت منذ عدة أيام أنّ أطراف شعرها تجف أيضا، ولذلك كانت قد قصت نحو بوصتين من شعرها كعلاج لذلك.
وكان قد حدث ذلك مرة فيما سبق، حيث إن شعرها أخذ يجف من أطرافه فقصت قدر إصبع منه، فزال هذا المرض، لكنه عاد اليوم مرة أخرى وبدأ شعرها يساقط أيضا، ومعنى ذلك أن يضيع الشيء الذي هو أحب شيء لدى "سمير".
ظلت مكتئبة طوال اليوم وبدأت تستخدم شتى الطرق والأساليب لمنع الشعر من السقوط.. تارة تستخدم صفار البيضة وأخرى تغسل رأسها بماء "آملا" أو تدلكها بالزبادي، أو تمسح جذور الشعر بالفازلين والدهون وتستعمل الخضر والفواكه في غذائها.
وفي أيام القلق والكآبة هذه التقت بـ "سمير" عدة مرات لكنها لم تطلعه على ما تعانيه، وظلت أمامه فرحة مسرورة، إلى أن توقّف الآن شعرها عن السقوط.
نعم! توقّف شعرها عن السقوط، لكن ساد قلبها وهم وهو أن شعرها يمكن أن يتساقط مرة أخرى، ويمكن أن يصبح خفيفا، ويمكن أن يجف من الأطراف فتضطر لقصّه وتقصيره حتى يصبح طوله كطول عامّة الفتيات، إذا ماذا يبقى الفرق بينها وبينهن؟ ولو بدأ سمير يكرهها عند ذلك فماذا يكون؟ ماذا تصنع؟ إن سمير لا يحبها هي وإنما يحب شعرها، ذلك الشعر الذي يعتبر أضعف جزء في جسم الإنسان.
والحب الذي يتوقّف على طول الشعر لا فائدة منه.
توقف سقوط الشعر لكن الوهم والشك والخوف الذي وقر في قلبها لم يكن ليخرج، وإنما أخذ يزداد تأصلا ورسوخا. إنها كانت قد نجحت في إخفاء القلق والاضطراب الذي تتعرض له بسبب سقوط الشعر، لكنها لم تستطع أن تخفي القلق الذي تتعرض له بسبب الوهم وهذا الخوف، ولذلك كلما كان يلتقي بها "سمير" يسألها قائلا:
"في أي شيء بدأت تفكرين بغتة؟"
"أراك اليوم مضطربة يا مكتا! أخبريني ماذا يهمك؟"
"أنا متأكد أن هناك أمرا تخفينه عني".
وكانت تجيبه كل مرّة قائلة: أنت واهم يا سمير، ليس هناك أمر. لا شيء يهمني أو يقلقني"، وبعد ذلك كان سمير يسمع ضحكة باردة ويرى شفتين ترتعشان فيكاد قلبه ينفطر.
وقررت يوما أنها ستقص شعرها، ستجعله قصيرا للغاية، أن تبلغ به درجة عامة الفتيات.. وفي اليوم الثاني قصت من شعرها أربع عشرة بوصة كاملة، وبقي شعرها حتى الخصر فقط. ظلت تنظر إلى الخصلة المقطوعة بعيون دامعة ثم كبستها في قبضة يديها وضمتها إلى صدرها وانفجرت باكية.
ومنذ ذلك اليوم أصبح هذا الأمر حديث بيتها كله:
- ماذا فعلت يا مكتا؟ لماذا قطعت شعرك؟
- ما كنا نعلم أنك حمقاء بهذا القدر.
- ماذا سيقول زوجك وأهل بيته يا مكتا؟ فأجابت "مكتا" في البداية كانت تقول: إن شعري كان يجف من أطرافه وكان يتساقط أيضا، فخففته، لأن ذلك يساعد على إعطائه غذاء جيدا، وهو بذلك سيصبح قويا".
ولكن لما رأت أهل بيتها لا يسكتون ولا يمسكون ألسنتهم، ثارت وغضبت وقالت باكية:
"إنما قطعت شعري أنا، ولي أن أصنع بشعري ما بدا لي، أن أقصه أو أحلقه، وليس لأحد أن يمنعني وينصحني."
وأسكتت أهل بيتها، ليس في ذلك ما تخاف منه، إن جمالها قائم على حاله؛ عينان واسعتان، ملامح جذابة، لون فاتح، وجه بريء.
وبعد يومين فحسب جاء "سمير" إلى بيتها، فالتقت به بهدوء وطمأنينة، لا يبدو على وجهها خوف ولا يوجد في قلبها اضطراب، كأنها راضية ومستعدة لكل ما يحدث لها.
ظلت برفقة "سمير" طول النهار في النزهة وفي السينما وعلى شاطئ النهر، ولا بد أن سمير قد نظر مرات إليها وإلى وجهها وإلى شعرها، لكنه لم يسألها مطلقا عن شعرها ولم يبد أي حيرة فأخبرته بنفسها تقول:
- "هل رأيت شعري؟ لقد قصصته".
- "لا يا مكتا لم أنتبه إلى ذلك، بل لم أشعر بذلك. فليس هناك فرق جوهري عند قص بعض الشعر".
- "بعض الشعر؟ لا يا سمير، لقد قصصت 14 بوصة كاملة منه."
- "إني متعجب والله، لم أشعر بأي فرق. أراك في هذه الحالة أيضا جميلة مثل اليوم الذي كنت قد رأيتك فيه أول مرة، بل أراك أكثر حسنا وجمالا.
- "ماذا تقول يا سمير؟ أ فتصدق أنت؟"
- "صدقيني، أنا أصدقك يا مكتا. في ذلك الوقت كان يروقني شعرك، والآن تعجبينني أنت نفسك."
- "سمير حبيبي".
واغرورقت عيناها بالدموع، لكنها لم تعرف ما إذا كانت دموع الفرح أو دموع الحزن.
* كاتب قصة قصيرة في لغة "أردو"، توفي في عام 20015، نال جائزة "أردو هندي ساهتيا أكاديمي" في عام 1996 وأيضا نال جائزة وطنية خاصة عن كتاب الأطفال "سرخ غلاب" (الوردة الحمراء)، كتب ما يقارب عشر مجموعات قصصية بالأردو، هاجر من فيصل آباد في باكستان لدى تقسيم الهند في عام 1947م، وتقاعد من "هيئة الأشغال العامة" في ولاية أوترا براديش مديراً لها.
** هو بروفيسور الأردو الأقدم في جامعة القاهرة، له عشرات المؤلفات والترجمات في الأردو والعربية، نال جوائز عالمية عديدة منها جائزة الشيخ حمد الثقافية للترجمة وجوائز وتكريمات أخرى، وهو من الوجوه النيرة المشرقة في سماء الأردو في ديار غير عربية، وشخصية مشهورة جدا.