حُرمة الضيف
الكاتب: عبدل بسم الله[1]
ترجمة د. أحمد القاضي[2]
سادت موجة شديدة الحرارة أجواء البلاد بضعة أيام؛ حيث صارت شوارع المدينة كالمقلاة على النار؛ مما تسبب في زيادة أعداد الوَفَيْات. أمَّا الأثرياء فقد احتموا بوضع ستائر نبات الغاب على أبواب بيوتهم؛ التي كان الخدم يُندُّونها بالماء بين الحين والآخر، ولجأ أصحاب المحلات التجارية إلى استخدام الستائر، أمَّا العامة من الناس؛ مثل حلاقي الأرصفة، وبائعي اليناصيب، والباعة الجائلين لم يجدوا إلا الجسور ليحتموا بها ينتظرون حلول المساء، كما اختبأ أصحاب العربات داخل عرباتهم، فلو تعرض جزء من أجسادهم للشمس حتمًا سيحترق.
لقد كادت المناشف أن تَسوَدَّ مِنْ كثرة العرق الذي تشبَّعت به، كان أهل الريف يغطُّون وجوههم بالمناشف، فكانوا يُبدون لمَنْ يراهم مِنْ بعيد قطاع طرق. أمَّا المُتَرجِّلون فكان منهم مَنْ يحمي رأسه بمظلةٍ صغيرة يحملها في يده، والبعض الآخر يحتمي بحقيبة يده، وهناك مَنْ يغطي رأسه بمنديل اليد، أمَّا أصحاب عربات الماء فقد ضاعفوا سعر ماء الشرب.
لقد ألقت تلك الموجة الحارة بظلالها القاتمة على كل أشكال نشاطات المدينة؛ فأثَّرت على حركة البيع والشراء، ولم يسلم منها النشاط الاجتماعي لسكان المدينة؛ حيث صار الناس عبيدًا رغم كونهم أحرارًا، ومن العجيب أنهم وقفوا أمام هذه الموجة عاجزين عن فعل شيء، كل ما استطاعوا فعله أن يحتفظوا بحُزَم صغيرة من البصل في جيوبهم تقيهم الحر، وهم شاكرون.
كان السيد "سلمان" كغيره يحمل في جيبه حُزْمَة صغيرة من البصل، كانت زوجته قد وضعتها له دون علمه، ورغم معرفته بفائدة البصل، إلا أنه تظاهر بأن البصل لا علاقة له بالحر. كان السيد "سلمان" يمضي بحقيبته في الشارع المُلتهب، وعلى الرغم من رغبته في أن يضع على رأسه الفوطة، أو يُخرج المِنْشفة ويلفَّها حول وجهه، لكن لم يكن مثل هذا الأمر سهلًا بالنسبة إليه، حيث إنه كان في عجلة من أمره ليصل إلى منزل السيد "مشري لال جوبتا"، ولم يجد وسيلة انتقال، وكان يقول في نفسه إنَّ غرفته ليست بعيدة عن المحطة، كما أخبره بذلك السيد "مشري لال".
كانت هذه المرة الأولى التي تطأ قدماه أرض تلك المدينة للقاء السيد "مشري لال جوبتا"؛ لذلك كان يعرف رقم المنزل، لكنه لم يكن يعرف كيف تسير الأمور، إلا أنه كان على يقين بأنه سيجد السيد "مشري"؛ ذلك الشاب الذي يسكن جوار السيد "سلمان"، واشتهر بين الناس بفكره الثوري؛ فقد كان في طليعة شباب "آل جوبتا" الذين حملوا لواء التمرد، وبدأ يأكل اللحم، ويتناول الشاي في كافيتريا المسلمين، نعم! تمامًا مثلما كانت هناك جامعة "بنارس" الهندوكية، وجامعة "عليجره" الإسلامية، كذلك كان في قريتهم مقهى هندوكي، يرتاده المسلمون، كما كان الهندوس يرتادون مقهى المسلمين، أمَّا المتحفظون من الطرفين، فكانوا يعتقدون عدم جواز ذلك؛ مثل السيد "زكي" جار السيد "سلمان"، فقد كان لا يشتري الحلوى إلا من المسلمين فقط ظنّاً منه أن السيد "شيفا شرن" لا يستبرئ من بوله.
كانت القرية تضم بين ربوعها مدرسة واحدة، وكان الجميع مضطراً لتعلُّم اللغة السنسكريتية، لذلك درس السيد "سلمان" عن الإله "راما"، وتفقَّه في العقيدة الهندوكية، وهكذا لم تُتح له الفرصة لتعلم اللغة الأردية، تمامًا كما حدث مع السيد "جيرداري جوبتا" والد السيد "مشري لال جوبتا"، فلم يتعلم غير اللغة الأردية في زمانه، ولم تتح له الفرصة لتعلم اللغة السنسكريتية، وذلك لأنه كان من طبقة "ويشا" ــــ الطبقة الثانية في هرم الطبقات الهندوسية ـــــ كما أنه لم يتكلَّف أحدٌ عناء البحث له عن مدرسة أخرى، فمثل هذه الظروف هي التي أجبرت السيد "سلمان" على دراسة اللغة السنسكريتية، ولمَّا ذهب إلى المدينة للدراسة في المراحل العليا، لم يكن هناك بُدٌّ من الاستمرار في تعلم اللغة السنسكريتية، لذلك بات مُوقناً بأنه سيصبح في النهاية مُعلماً لهذه اللغة ، إلا أن الحظ لم يحالفه في ذلك، ووجد نفسه مُعلَّماً لمادة التاريخ في إحدى المدارس الإسلامية المتوسطة التي تم افتتاحها حديثًا في قريته.
خلال الفترة التي التحق فيها السيد "مشري لال" بالثانوية، كان السيد "سلمان" يصل الليل بالنهار ليعلِّمه اللغة السنسكريتية، لذلك كان يعتبره مُعلّمه وقدوته، وكان عندما يراه يلمس قدمه وينحني له احترامًا وتقديرًا، والآن قد حصل السيد "مشري لال" على الليسانس، ويستعد للدخول في مسابقة التوظيف، ورغب في أن يكون السيد "سلمان" أول من يزوره في بيته عندما يأتي إلى المدينة، لذلك أراد السيد "سلمان" أن يحقق له رغبته ويفاجئه بالزيارة دون سابق إنذار.
كان السيد "سلمان" يعرف اسم الشارع، وقال إنه "جوبالكنج"، نعم، كان هذا الاسم، وكان منزل السيد " رادهارامانا مشري" الذي يبعد أقل من كيلومتر من المحطة تقريبًا يحمل رقم B.562.
سأل السيد "سلمان" أحد أصحاب المحلات:
ـــــ يا أخي أين يقع شارع "جوبالكنج"؟
أخبره وهو يمضغ ورق التنبول أن يعود إلى الخلف قليلًا، ويدخل الشارع الذي يتصدَّره عمود الكهرباء. عندما خرج السيد "سلمان" من ظل المحل لفَحَته حرارة الجو على صفحة وجهه، فوضع يده على صدغه، وتذكَّر حُزْمة البصل التي كانت في جيبه، وتوقف لبرهة، وقال: ـــــ نعم هذا هو الشارع. نظر بعناية إلى عمود الكهرباء، ودخل الشارع.
كانت البنايات التي تبدأ بحرف" A" على اليمين، فظنَّ أنه لا بُدَّ وأن تكون البنايات التي بحرف "B" على اليسار، إلا أنه وجد البنايات التي بحرف "H"؛ فتقدم قليلًا للبحث عن البنايات التي يقصدها، لكنه للأسف، وجد بنايات بحروف مختلفة، فارتبك، وأصابته الحيرة، فهو لا يدري إلى أين هو ذاهب.
كان هناك رجل في الشارع ينزع حشرات البق عن فراشه إلى الأرض ليسحقها بقدميه، فرأى السيد "سلمان" ويبدو أنه أدرك حيرته، فتقدم الأخير نحوه وسأله:
ـــــــ أين مبنى: B562؟
ــــــ أووه .... منزل السيد "ميسير"؟ إنه يسكن في شارع "جوبالكنج" القديم، اسلك هذا الطريق، وبعد مسافة قصيرة دُر من عند المعبد إلى اليمين ثم اسأل هناك أي شخص.
شَكَرَ له السيد "سلمان" صنيعه هذا وانطلق. وصل السيد "سلمان" إلى المعبد المقصود، ولما دار ناحية اليمين فإذا به يجد بضع جواميس في مرابطها، وسمع صوت فتاة تقف في شرفة منزلها تنادي بائع الأساور الذي ابتعد عنها، فتوقف وسألها:
ــــــ هل هذا شارع "جوبالكنج" القديم؟
لقد أراد أن يأخذ المعلومة من تلك الفتاة، لكنها لم تنتبه إليه، حيث كانت مشغولة ببائع الأساور، فتقدم السيد "سلمان" من هناك.
بعد قليل من ذهابه رأى المباني العالية ذات الطراز القديم، وتحت ظل هذه المباني كانت الحواري الضيقة باردة إلى حد ما مقارنة بغيرها؛ حيث كان الأطفال يلعبون فيها عرايا، فكَّر السيد "سلمان" أن يقف هناك لبرهة، لكنه واصل المسير.
كان هناك ولد يجري يجر خلفه على الأرض فأراً سميناً قد ربط ذيله بخيط، لم يأبه الولد برؤية السيد "سلمان"، مثلما كان يتوقع هو نفسه، ليس هذا فحسب، بل اصطدم به أثناء جريه، فسأله:
ـــــ أين يقع B:562 ؟ هل تعرف أين يقع منزل السيد "مشري"؟
نظر الولد إليه نظرة عابرة وفرَّ مُشيرًا إلى المنزل، وذهب ساحبًا فأره. تنفس السيد "سلمان" الصُعداء، وذهب أمام تلك البناية الهائلة، وظلَّ واقفًا هناك. كانت هناك سيدتان جالستان على أريكة، تتحاوران حول قضية إقليم "البنجاب ([3])" على طريقة النساء:
ـــــ يا أم "بيتن" احمدي ربنا أننا في "الهند"، فلا نعلم ما قد يُصيبنا من مكروه لو كنا في إقليم
"البنجاب". تقدم السيد "سلمان" نحوهما، سائلًا:
ـــــ هل هذا هو منزل السيد "رادها شرن ميشري"؟
ظلت السيدتان جالستين على أريكتهما، بينما ظن السيد "سلمان" أنهما ستقفان احترامًا له، وفقًا لعادات قريته، لكن هذه هي المدينة. جاءه الجواب من إحداهما:
ـــــ لا. لا يسكن السيد "ميسير" هنا، إنه يسكن في "جواهر نجر" هناك يسكن مستأجرون له. أجابته المرأة، ثم صمتت، بينما سألته الأخرى، وهي تحكُّ رأسها:
ــــــ ما الأمر؟
ــــــ يسكن في منزله شابٌّ يدعى "مشري لال جوبتا"، أريد أن أقابله.
ـــــ اصعد السلم واذهب إلى الأعلى ستجد غرفته.
دخل السيد "سلمان"، كان المدخل مُظلمًا، توقف برهة حتى ظهر صنبور الماء في أحد الأركان، ثم ترآى له السُّلَّم، فراح يصعده في حذر.
وأثناء صعوده حدثته نفسه أن السيد "مشري لال" سيكون نائماً، وسيضطر إلى أن يدق الباب لإيقاظه من النوم، وسيستيقظ مذعورًا ويفتح سلسلة الباب، وينظر إلى الخارج وأجفانه تغالب الشعور بالنوم، وعندما سيراه أمامه سينحني احترامًا له، قائلًا:
ـــــ مَنْ؟
وعندما عبر السُّلَّم تفاجأ بصوت امرأة من طرف آخر، فسألها:
ـــــ هل السيد "مشري لال" موجود؟ فأجابته:
ــــ انتظر قليلًا.
كان جوابها حادًّا، فظنَّ السيد "سلمان" أنها مشغولة في أمر مهم، فوقف على طرف مدخل آخر ليس له باب، وبدأ يفكر في أمرٍ ما، أثناء هذا رأى سيدة بيضاء في منتصف العمر، كانت ترتدي ملابس شفَّافة، خرجت من صحن البيت مهرولة، ودخلت غرفة أمامية وارتدت ملابسها، وخرجت بعد أن تحشمت بقميصها، وقالت:
ـــــ تفضل.....
نادت على السيد "سلمان"، فدخل المنزل، وكأنه لم يرها منذ قليل، ربما ظنت السيدة مثله، وظلت واقفة بكل ارتياح. رأى السيد "سلمان" ملابس مغسولة مُعلَّقة في أطراف صحن المنزل، وقد غطت رائحة الغسيل أجواء المكان. وهنا أجابته السيدة:
ــــ يسكن السيد "مشري لال" في غرفة مجاورة، لكنه ليس موجودًا الآن، خرج منذ الصباح إلى مكانٍ ما، مِنْ أين أتيت؟ تفضل ...
أجابته السيدة في أدب جَمٍّ، وبسطت الفُرُش للضيف ثم دخلتْ الغرفة، وجاءتْ بعد قليل بواجب الضيافة، ووضعته أمام الضيف، وقالت:
ـــــ تفضل الماء، إنه يوم حارٌ جدًا.
مجرد أن قالت هذه الجملة، نظرت إلى ملابسها المغسولة، ولا أعلم ماذا دار في خَلدها، فوضعتْ الماء على الأرض ثم ذهبتْ إلى الداخل، وأتت هذه المرة بمروحة يدوية، ووضعتها أيضا على الفُرُش.
تناول السيد "سلمان" ما قدمته له من واجب الضيافة، وشرب الماء، وأخذ مروحة اليد وبدأ يحركها بهدوء، وقال:
ـــــ هل ذهب "مشري لال" إلى خارج المدينة؟
ـــــ لا. لم يذهب إلى خارج المدينة، بل سيكون في مكان ما في المدينة، ربما ذهب إلى دار السينما، أو إلى منزل صديق، كان يتواجد كل يوم هنا، لكنه ذهب اليوم فقط إلى الخارج.
نظر السيد "سلمان" إلى الساعة؛ التي أشارت عقاربها إلى الثالثة، شعر بالتعب فاستلقى لفترة وجيزة، ثم أتت السيدة له بالوسادة من الغرفة، وقالت:
ـــــ استرح قليلًا سيأتي السيد "جوبتا" في المساء.
وضعت المرأة الوسادة عند رأسه، ثم جمعت الثياب المبللة في الدلو، ونزلت إلى الأسفل.
عندما استلقى السيد "سلمان" بدأ يضايقه البصل الذي كان في جيبه، فأخرجه ووضعه تحت السرير، وبعد قليل غلبه النوم. رأى في المنام أن أساتذة مدرسته يتشاجرون مع بعضهم البعض، وكان ناظر المدرسة يوبِّخ أستاذ التدريب البدني السيد "ستياناراين يادف"، وعندما ناصره السيد "سلمان" هاجمه كل الأساتذة، في هذه اللحظة استيقظ السيد "سلمان" من نومه.
يبدو أن الليل قد حلَّ، كان صحن المنزل دون مصباح، وكان هناك مصباحٌ خافتٌ في الداخل يصل نوره إلى الصحن، إلى جانب الضوء الذي يأتي من الداخل من موقد الطعام الذي كانت السيدة تطهو عليه الطعام. لقد صار صحن المنزل الذي كانت تفوح منه رائحة الغسيل في الظهيرة يفوح الآن برائحة الطعام. وهنا سأل السيد "سلمان":
ــــ ألم يأتِ "مشري لال" حتى الآن؟
أجابته السيدة في قلق، وهي تحمل صينية الشاي الذي أعدته سلفًا في أكواب من "الاستانلس":
ـــــ ماذا أقول لك سيدي، لا أعرف أين ذهب اليوم؟ كان لا يبرح غرفته.
ـــــ يا إلهي لماذا أرهقت نفسك يا سيدتي؟
ـــــ ليس هناك تعب، الشاي يُعدُّ في المساء عادة.
تناول السيد "سلمان" الكوب، وعادت السيدة إلى الموقد، وفي هذه الأثناء صعد رجلٌ مبللٌ السُّلَّم يلفُّ حول خصره منشفة، ويحمل خيوطه المقدسة، ودخل الغرفة، وبدأ يتلو بعض أبيات من الكتاب المقدس، وبدأت رائحة البخور تختلط في الفضاء برائحة الطعام.
اختلس "سلمان" النظر إلى الداخل، فوجد أن كل أثاث البيت مُرتبًا ومُزَّينًا، وكانت صور كل الآلهة الهندوكية: "راما، كريشنا ، هنومان ، شنكر ، باروتي ، لكشمي ، جنيشا، وغيرهم" مُعلَّقة على جدران الغرفة، وكانت هناك لافتة مكتوب عليها: :رام مانوهر باندي" مساعد في هيئة التليفونات. نعم لقد كان "رام باندي" هو مَنْ يحمل البخور في يده اليمنى، ويحرّكه حول جميع صور الآلهة، وهو يمسك مرفق يده اليمنى بيده اليسرى، ويتلو بعض أبيات كتاب "جيتا" المقدس بطريقة يشوبها الصواب والخطأ، وكانت مروحة سقف الغرفة القذرة تتحرك ببطء شديد.
أعدت السيدة الطعام، ثمَّ بدأت تصنع الخبز، أراد السيد "سلمان" أن يرحل، ويقيم في أحد الفنادق، ويلتقي بـ"مشري لال" في الصباح لأن الليل يطول، ولا خبر عنه حتى الآن. فالتقط حقيبته، قال:
ــــ أنا ذاهب الآن سأقابله غدًا في الصباح.
فسألته السيدة بعد أن استدارت ونظرت إليه:
ـــــ إلى أين ستذهب؟
ـــــ سأقيم في فندقٍ ما.
ـــــ لماذا يا سيدي الفندق، ألا يوجد مكان هنا؟
ـــــ تفضل بتناول الطعام، واصعد إلى سطح المنزل واستلقِ هناك، سيأتي السيد "جوبتا" في الليل،
وإن لم يأتِ فيمكنك الذهاب في الصباح، لن أدعك تذهب في هذا الوقت، تفضل هنا، واخلع
نعليك، واغسل يديك واجلس للطعام.
ـــــ لا يا زوجة أخي، لماذا تتعبين نفسك؟
لم ير السيد "سلمان" غضاضة أن يناديها بـ"زوجة أخي".
ـــــ ليس هناك تعب، تفضل وتناول الطعام.
أصبح السيد "سلمان" مضطرًا؛ فخلع نعليه، وغسل وجهه ويده وقام، في هذه الأثناء كان السيد "باندي" قد فرغ من طقوس عبادته، وجلس على فراشه يتفحص بعض الأوراق في الداخل، لم يجد السيد "سلمان" الفرصة حتى يُسلِّم عليه، رغم أنه كان يرغب في ذلك بشدة، و لم يكن من العدل أن يحيِّه بعد مرور كل هذا الوقت، لهذا حاول أن يتحدث معه دون أن تحية، وهنا قالت السيدة مُجددًا:
ـــــ أخي، تفضل أنت الطعام أيضًا. فجاوب السيد "سلمان" في غلظة نظرًا لانشغاله ببعض الأوراق:
ـــــ لا. سأتناول العشاء بعد قليل.
ـــــ تفضل أنت ربما تكون جائعًا وعطشانًا بسبب تعب النهار، إنه سيتناول الطعام فيما بعد، إنه
تناول بعض الأشياء بعد مجيئه من المكتب، وبينما أنت نائمٌ، استدعته السيدة مجددًا وبسطت له الفُرُش، ووضعت الطعام في الطبق، وملأت الإبريق بالماء ووضعت جانبه الكوب.
جلس السيد "سلمان" على الطعام، تتملكه مشاعر السرور والحبور؛ فلم يكن يتوقع أن يجد في قريته شخصًا من طبقة البراهمة يُطعم أحدًا على مائدته دون أن يسأل عن طبقته، وعقيدته، وظن أن هذا يمكن أن يحدث في المدينة رغم أنها ليست مدينة كبيرة وسكانها يتقلدون إلى حد ما عادات القرية وتقاليدها، لكنها في النهاية مدينة؛ يعتنق سكانها المثقفون أفكارًا تقدمية، ويمتازون بسلاسة التفكير ومرونته. إنهم متدينون لكنهم مُتحررون غير تقليديين. كان السيد "سلمان" يأكل ويفكر، وقد أعجبه "الباذنجان"، ومخلل "المانجو" الطازج، نعم كان لذيذًا رغم أنه لم يُطهى بشكلٍ كامل، كما كان الخبز مخلوطًا بالسمن، وهو الذي كان يأكله خاليًا من السمن في بيته، بل كان يُلفُّ في قطعة قماش حتى لا يصبح يابسًا جافًّا.
تقدمت السيدة مرة أخرى لتضع أمامه خبزًا آخر طازجًا يَخرج منه البخار، وهي تسأل:
ـــــ هل جئت من قرية السيد "جوبتا "؟
رفع السيد "سلمان" رأسه، و في هذه اللحظة فرغ السيد "باندي" من أوراقه وكان يقطع المانجو، فقد كان صوته فظًّا كالعادة، وهنا، أجاب السيد "سلمان"، وهو يلتقط بعضًا من مخلل المانجو"، ويضعه في فمه:
ـــــ نعم يا زوجة أخي.
استدعى السيد "باندي" زوجته بالإشارة، وأعطاها ثلاثَ قطعٍ من المانجو، وضعتها السيدة في طبق السيد "سلمان"، وهنا سأله السيد "باندي" بنفس صوته الفظ:
ـــــ هل أنت أخوه؟
تضايق السيد "سلمان"، وأجابه:
ـــــ لا. إنه تلميذي.
ـــــ هل أنت مدرس؟
ــــــ نعم يا سيدي.
ــــــ أين تعمل؟
ـــــ في قريتي.
ــــــ هل أنت أيضًا من عائلة "جوبتا"؟
ـــــ لا، يا سيدي.
ــــــ هل أنت من طبقة براهما؟
ـــــ لا. أنا مسلم، واسمي "محمد سلمان".
عَرَّفَ نفسه جيدًا، وهو يمسك في يده كِسرة خبز أخيرة مغموسة في الخضار، وهنا نظر السيد "باندي" إلى زوجته فوجدها هي أيضًا تنظر إليه، وكأنما يريدان أن يقولا نفس الشيء، لكنهما لا يستطيعان أن يُفصحا عنه بشكل مُباشر.
أمَّا السيد "سلمان"، فكان ينتظر خبزًا آخر، لكن السيدة تركت الموقد وانصرفت إلى بعض شئونها داخل المنزل، وهنا راح السيد "سلمان" يتناول بعض قطع المانجو. بعد برهة أقبلت السيدة من الخارج، تحمل في يدها كأسًا من الزجاج والخوف يبدو في عينيها، ثم تقدمت والتقطت الكوب "الاستانلس" الذي شرب فيه السيد"سلمان" الشاي من قبل، واستبدلت به الكأس الزجاجية.
تذكر السيد "سلمان" أنه كان يشرب الشاي في كوب من "الاستانلس" ذلك المساء، وأنه تناول طعامه أيضًا في طبق من "الاستنالس"، فانتابته بعض الحيرة، ثم أخذ طبقه وجلس بعيدًا، وبدأ يغسل طبقه الذي أكل فيه. عادت السيدة إلى الوراء، ونظرت إليه، لكنها سرعان ما انشغلت في شئونها المنزلية، وراح هو يفكر ولسان حاله يقول:
ـــــ لم يأتِ "مشري لال" حتى الآن.
[1] هذه قصة: ATITHI DEVO BHAVAللدكتور "عبدُل بسم الله"؛ كان مولده في "الله آباد" عام 1949م، عمل مدرسًا، ثم رئيسًا لقسم اللغة الهندية في الجامعة الملية الإسلامية بـ “نيودلهي". التقيته في فبراير 2011م. له عدد من الأعمال الأدبية؛ الشعرية والمسرحية. نال جائزة "لال نهرو السوفياتية". ولقد أهداني مجموعته القصصية التي تحمل نفس العنوان صديقي الدكتور "مجيب الرحمن" الأستاذ في جامعة جواهر "لال نهرو" بعد التواصل مع المؤلف.
[2] أستاذ الأردو في جامعة الأزهر الشريف، من رواد دراسات الأردو في جمهورية مصر العربية، له عدد كبير من المؤلفات ما بين ترجمة وتأليف، مربي جيل من الأساتذة والمهتمين بالأردو في الهند في مصر، شغل منصب الملحق الثقافي بسفارة جمهورية مصر العربية في نيو دلهي قبل ثلاث سنوات.
[3] - إقليم البنجاب: تقاسمته "الهند"، و"باكستان" عام 1947م، بعد مجازر راح ضحيتها الآلاف من البشر.