بقلم: خيرة بغاديد - الجزائر-[1]
يخطو خطواتِه المثقلة بتفاصيل حياتِه الممتدّة عبرَ خمسة عقودٍ بالتمامٍ، تُلامس كهولتُه الأرصفةَ الباردةَ والضيّقةَ المفضيّةَ إلى شارعٍ مزدحمٍ رغمَ الحجر الذي فُرض على العباد في هذا الزّمن الشّاهد لأصعب الأزمات بتفشّي جائحة غريبة يطلق عليها كوفيد" 19".
لا يعرف أين تقوده تلك الخطواتُ المبعثرةُ عبر هامشِ الحياةِ، سوى أنّه هنا خارجَ مجالِ التّغطيّةِ يحاولُ أن يلملمَ بعضَه بالشّكلِ المألوفِ، وبتلك النّمطيّةِ المعتادةِ التّي تغتالُه يومًا بعد يومٍ، ولا يجد دافعاً لتّغييرها.
- لا يهمّني الحجر، فلطالما فُرض عليَّ الحجرُ والحظرُ من الجميع، ثمّ ماذا بعد؟ وما جدوى أن أبقى في حجرتي الخانقة، حتّى لا تصيبني العدوى من أحدهم.
- ماذا يعني أن أعيشَ أكثر ممّا عشت، يوماً، يومين. شهورا.. و.. وماذا بعد؟
- لست متشائماً ولكن، في هذه المدينة أشعر بغربة قاتلة، فلا أحد يمنحك متنفسا للحياة، وهو يثير فضولك نحو مباهج الكون ورحابه، أو يستفزك لتتغيّر نحو الأفضل وتكون إنساناً منسجمـاً وفاعلاً ومحباً.
يقول في نفسه وأسئلة كثيرة تتضارب وتتسارع وتتزاحم داخل عقله الذي غدا عاطلا عن التّفكير، وعن التماس الحقيقة التي تقوده إلى اليقين، والتّملص من متاهات تلك الأسئلة المريبة الطّارئة بين لحظة وأخرى..
السّاعة منتصف النّهار، منتصف العمر الذي تتعطّل فيه الأشغال والأمنيات والمواعيد الفاصلة بين عاشقين، وبين مدينتين، وبين أفقين ممتدّين بين حلم وأغنيّة.
يخطو خطواته المرتجفة بين أزقة تتسع وتضيق للحياة وللأنفس وللأحلام العالقة بين مشاجب الأزمنة والأمكنة وفضاءات الذات الطامحة للانعتاق والعيش الكريم، يتسكّع وحده هنا وهناك على أرض الله ، تلفّه حرارة شمس تموز ، فيبدو وجهه مفحّمًا ، غريب الملامح والنّظرات.
سيارات الإسعاف تجوب الشّوارع، شارعاً شارعاً، وهي تدقُّ نواقيس الخطر الذي عمّ البلاد وتفشى بين العباد، إنّه زمن كورووونا، فاللعنة على هذا البلاء العظيم.
كلّ شيىء ينبىء بالخطر وصفّارات رجال الأمن، وتحذيراتهم عبر ميكروفونات صاخبة تصدحك صدحاً فتخّل بطبلة أذنيك في فوضى عارمة لم تعتدها كما لم تعتدها البشرية جمعاء حتّى في الأزمنة الطارئة من الحروب والكوارث، إنّه الفيروس اللعين يحلّ على بقاع الأرض كلّها، ينهك الأجسام والأنام والأحلام فتلغى الأعراس والاحتفالات وحتى مراسيم العزاء، إنّه الفيروس، الفيروس.
- ماذا تفعل هنا؟ أيّها الأحمق، العابث التزم بيتك.
- حذارِ ، حذارِ، الطّريق غير آمن.
أوشك رجل الأمن الذي تدلّى رأسه من نافذة السّيارة أن يبصق على وجهه، وأن تمتدَّ يداه إلى عنقه لينهي تواجده على هذه الأرض التي لم تعد تستحقّ الحياة، والتي بدورها لم تعد تحتضن آهاته وأحلامه، وجسده المنتحل في كومة خراب تلفّه لفًا خانقًا.
- ألم أقل لك انصرف إلى بيتك؟
- أيّها الأحمق، ماذا تفعل هنا وحدك، وفي هذا الوقت الحارق؟
في اتجاه معاكس عن ذلك المكان، يلملم أنفاسه، خطواته لينصرفَ في هدوء.
=======================