طعام بأنامل الموت
الكاتبة: كامالا ثريا[1]
ترجمة د. عبد الغفور الهدوي كوناتودي[2]
يمكننا أن ندعوَ ذاك الشخص العائد إلى بيته بعدما قدّم شكره لزملائه في المكتب على مساعدتهم في ترميد جثّتها، باسم "الأب"، لأنّه لا يوجد في تلك المدينة من يعرف قيمته إلا أطفاله الثلاثة، فهم ينادونه "بابا..."
حاول أن يسترجع كلّ لحظة من ذاك اليوم، وهو جالس في الحافلة بين من لا يعرفهم ومن لا يعرفونه.
كان قد استيقظ في ذلك الصباح على صوتها...
"إلى متى تظلّ نائماً متلحفاً هكذا، يا أونّي؟ أليس اليوم يوم الإثنين؟" – كانت توقظ الطفل الكبير... وبعد ذلك، بدأت روتينها بالمطبخ وهي ترتدي "الساري"[3] بشكل مضطرب... وأثناء ذلك، قدّمت لي الشاي في الكوب الكبير... وبعده؟ وبعد ذلك، ماذا حدث؟ هل قالت شيئاً لا يتوجب عليّ نسيانه؟ ورغم محاولاته المتعدّدة، لم يستطع أن يتذكر شيئاً مما قالته بعد ذلك... " أما كفاك هذا القدر من النوم، يا أونّي؟ أليس اليوم يوم الإثنين؟" – تلاطمت هذه الكلمات فقط في رأسه مثل تلاطم أمواج البحار... ردّد تلك الكلمات كأنّها ترنيمة صلاة... خيّل إليه أنّ خسارته لن تطاق لو نسي تلك الكلمات...!
حينما خرج إلى المكتب، كان الأولاد معها، تحمل أوعية معبّأة بحلويات ليتناولها الأطفال بالمدرسة، وفي يدها اليمنى شيء من مسحوق الكركم...
لم يذكر عنها شيئاً في مكتبه، زواجه كان ثمرة علاقة غرامية استمرّت سنة أو سنتين، ولم يكن ذلك برضا عائلته... ولكنّه لم يندم أبداً على ذلك القرار.
الفقر، أمراض الأطفال، ومشقات عديدة أرهقتهما معا، قلّ اهتمامها بمظهرها، كما أنّه أصبح على وشك فقدان قدرته على الضحك.
ورغم كلّ تلك المعاناة، تحابّا، كما أحبّا أولادهما: أُونِّي – ابن عشر سنوات، بَالَانْ – ابن سبع سنوات، ورَاجَان – ابن خمس سنوات... وجوه أولادهم دائماً ملطّخة بالأوساخ، لا يتمتّعون بجمال أو ذكاء جديرين بالذكر، ولكنّ آمال الوالدين كبيرة، حيث كانا يقولان:
" أونّي مولع بالهندسة... ولذا لا يزال دوما يصنع شيئا مّا... "
"سنجعل بالان طبيبا، انظر إلى جبهته... جبهته الواسعة تدلّ على ذكائه"
"راجان لا يخاف حتّى المشي في الظلام... وهو ذكي.. يبدو أنه سيصبح جنديّاً.."
يسكنان في حيّ صغير للطبقة الوسطى، شقة ذات ثلاث غرف في الطابق الأوّل، وأمام إحدى الغرف شرفة صغيرة جدّاً تتسع لشخصين فقط، زرعت فيها الأمّ شجيرة ورد لم تزهر حتى الآن...
وفي المطبخ، تتدلّى على الكلاليب المثبتة على جدرانه الملاعق والمغارف النحاسية، وبجانب الموقد هناك مقعد خشبي متهالك كانت الأمّ تجلس عليه. وعادة، كان الوالد يعود من المكتب حينما كانت تطبخ "الشاباتي"[4] وهي جالسة على ذاك المقعد الخشبي.
حين توقّفت الحافلة، نزل منها، أحسّ بألم خفيف تحت ركبته... هل هي بدايات الروماتيزم؟ من سيعيل أولادي لو أصبحت أسير الفراش؟ اغرورقت عيناه دمعاً بهذه الفكرة، مسح وجهه بمنديل وسخ ومشى إلى البيت مسرعاً.
هل نام الأولاد؟ هل أكلوا شيئاً أم ناموا بعد التعب من بكاء طويل؟ ليس لديهم الوعي حتى للبكاء، وإلاّ لِم وقف أونّي بدون بكاء عندما شاهدني أركب سيارة الأجرة وأنا أحملها؟ بكى الولد الصغير فقط، ولكن كان بكاءه على رغبته في ركوب سيارة الأجرة لا غير. فعلاً! لا يعرفون معنى الموت!
هل كنت أعرف معنى الموت؟ كلاّ... وإلاّ هل كنت أظنّ أنّ من أراها كلّ يوم في البيت ستسقط ميتة على الأرض قرب مكنسة بدون وداع لأحد؟
عندما وصلت إلى البيت، نظرت إلى الداخل من خلال نافذة المطبخ، ولم تكن موجودة هناك...
ارتفعت أصوات الأولاد وهم يلعبون في الفناء... يعلو صوت أونّي: "ضربة عظيمة...!!"
أخذت المفتاح وفتحت الباب، وعندئذ رأيتها ملقاة على الأرض، فاتحة فاها قليلا، ومضطجعة على جنبها، ظننت أنها فقدت وعيها فحسبُ، ولكن طبيب المستشفى أخبرني: "سكتة قلبية... مضت ساعة على موتها"
اختلطت مشاعري، أشعر بغضب نحوها لا أعرف سببه، لِم غادرتني هكذا بدون أيّ إنذار، راميةً على كاهلي جميع المسؤوليات؟!
من الآن، من سيقوم بغسل الأولاد؟ من سيجهّز لهم الطعام والحلويات؟ من سيهتمّ بهم عندما يمرضون؟
"توفّيت زوجتي..." ردّد في نفسه: "أحتاج إجازة يومين لوفاة زوجتي اليوم بسكتة قلبية مفاجئة" ما أجمل هذا الطلب للإجازة! ليس سبب الإجازة أنّ الزوجة مريضة، بل توفّيت.
ربّما سيطلبني المدير إلى مكتبه ويقول "آسف جدّاً على مصابك"
هههه... لماذا يتأسف على وفاة زوجتي؟ هل يعرفها؟ إنه لا يعرف شعرها بأطرافه الملتوية، وبسمتها التي لا تعرف التعب والإعياء، ومشيتها البطيئة، وكلّها خسارتي.. خسارتي أنا وحدي...
وعندما فتح الباب، جاء إليه الولد الأصغر مسرعا من غرفة النوم قائلا: "لم تعد أمّي حتى الآن".
هل نسي كلَّ ذلك بهذه السرعة؟ هل ظنّ بأن تلك الجثّة التي حملتُها إلى سيارة الأجرة سترجع وحدها؟
مشى إلى المطبخ ممسكًا بيده...
"أونّي...." نادى ابنه الأكبر.
"نعم، بابا...؟"
جاء أونّي قائما من السرير الذي كان يضطجع عليه...
"نام بالان.."
"مم... هل تناولتم شيئا؟"
"لا..."
قام بتفتيش تلك الأواني المرتبة في المطبخ بعد إزالة أغطيتها، ألوان الأطعمة التي كانت تطبخها- الشاباتي، الأرزّ، مرقة البطاطس، المخلّلات، اللبن الرائب، وفي إناء زجاجي باياسم[5] من السمن الذي كانت تصنعه للأطفال حيناً بعد حين...
أطعمة لمستها أصابع الموت! لا... لا يجوز تناول شيء منها...
قال لهم: "سأقوم بصنع شيء من "أوبماوو"[6]، هذه الأطعمة أصبحت باردة..."
"بابا..."
"ماذا...؟
"متى ستعود الأمّ؟ أما شفيت حتى الآن؟"
فليصبر الصدق يوماً واحداً، ما فائدة جعل هذا الطفل حزينا الليلة؟
"ستعود" - أجاب
غسل الصحون ووضع منها صحنَينِ على الأرض..
"لا توقظ بالان، دعه ينام" – قال
"بابا... باياسم بالسمن" – قال راجان. غمس لتوّه سبابته في الوعاء.
جلس هو على المقعد الخشبي الذي كانت زوجته تجلس عليه..
"هل ستوزّع الطعام أنت يا أونّي...؟ بابا ليس بحالة جيدة... أشعر بصداع"
دعهم يأكلون... فبعد هذه المرّة لن يحصلوا أبداً على طعام صنعته أياديها..
بدأ الطفلان يتناولان باياسم... جلس ينظر إليهما صامتا وساكنا... وبعد لحظات، سأل: "أما تحتاج الأرزّ، يا أونّي؟"
"لا... يكفيني الباياسم، بابا... إنه لذيذ جدّا..." - قال أونّي
قال راجان وهو يضحك: حقّا... أمّنا صنعته جيّداً"
قام ومشى إلى الحمام كي يستر الدموع المنهمرة من عينيه.
[1] كامالا ثريا (1934-2009) شاعرة، وروائية، وقاصة شهيرة باللغة الإنجليزية والمليبارية من كيرالا، وهذه القصة ترجمة لقصتها "نيي باياسام" (ney payasam) باللغة الماليالمية، تعد كامالا من أشهر الكاتبات والشواعر الهنديات في القرن العشرين، وحازت جوائز عديدة أهمها جائزة ساهتيا أكادمي، وجائزة كنت، وجائزة الشعر الآسيوية، وجائزة آسان العالمية.
[2] أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، كلية الجامعة، كيرالا، الهند.
[3] . ثوب نسائي هندي.
[4] الخبز الهندي
[5] . باياسام: بودينج الأرز الهندي.
[6] . طعام هندي كعصيدة سميكة من دقيق أرز خشن.