عيدُ غريبٍ
بقلم: عبيد الرحمن[1]
راشد يعمل مهندسا برمجيا في إحدى شركات الحوسبة السحابية بمدينة كيرالا، عاد إلى منزله بعد أربع سنوات قضاها في الجهد والكفاح، وذلك لإكمال مشروع ضخم يهدف إلى إحداث ثورة في مجال الحوسبة السحابية، عُين رائدا لهذا المشروع، لذا كرس نفسه كليا للمشروع، ولذلك لم تسنح له الفرصة للاحتفال بالعيد مع عائلته لسنوات، بعد إكمال مشروعه عاد إلى منزله بشاهين باغ في مدينة دلهي عام 1443/ 2022 ليحتفل بالعيد مع أعضاء عائلته، وصوله لمنزله بسلام ملأ قلوب أطفاله وجميع أعضاء أسرته بهجة وسرورا، طلع هلال العيد في نفس ليلة ذلك اليوم الذي وصل فيه راشد إلى منزله، ولما رأى راشد هلال العيد شعر كأنه طلع احتفاء بقدومه، إنه لم يطلع بنفسه، بل أطفاله، وزوجته، ووالداه، وجميع أعضاء أسرته أرادوا استقباله بطريقة فريدة، فأرسلوا إلى هلال العيد ليفاجئه بطلوعه، بالنسبة لراشد كان هذا الهلال بمثابة مرآة تعكس وجوها مستبشرة وبسمات لامعة. طلع هذا الهلال ليسجل الفيديو لأطفاله وهم منغمسون في النشوة والابتهاج، ويصور العالم وهو يطرب في المتعة والغبطة، تذكر راشد تلك السنوات الرابعة التي قضاها بعيدا عن أهله، هذا العيد كان فريدا من نوعه، عندما كان بعيدا عن أهله كان يحتفل بالعيد فقط ولم يكن يشعر بروحه، ولكن في هذه المرة، إنه لم يحتفل بالعيد فحسب بل عاشه وأدرك سر حلوله، وعرف أن العيد يحل لتبتسم كل شفة، ويفيض كل قلب فرحة، وتلمع كل عين ببريق الحبور، كما أدرك أن هلال العيد يطلع ليجود بعطاء الود، ويأتي بموسم الحب، وليمطر الناس الحب على جميع نسمات المعمورة، ولا يفرقوا فيه بين القريب والبعيد، والصديق والعدو، والسيد والخادم.
بالنسبة لراشد، كان هذا العيد مليئا بذكريات لا تنسى، احتفل به مع أهله وأحبائه بحماسة غير مسبوقة ونشوة لا توازيها أي نشوة في العالم، ولكن في منتصف النهار عندما كان يقصد إلى محل البقالة لشراء بعض البقالات حدثت حادثة ما جعلته ينسى جميع نشوات العيد.
بينما كان راشد متوجها إلى محل البقالة، إذ سمع صوتا خافتا يردد هذا البيت للمعتمد بن عباد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في الأغمات مأسورا
فالتفت ليرى من هو صاحب هذا الصوت، فرأى فتى يافعا شاحب اللون، تلوح آثار الكآبة على وجهه، وذلك ما أثار القلق في قلب راشد بشأنه، فتوقف ليصاحبه ويتفقد أحواله، عندما اقترب منه الفتى حياه بطلاقة الوجه وعانقه بدفء وحرارة، وسأله برفق وحنان: يا ولدي! هذا يوم العيد، يوم الفرحة والبهجة، لماذا أنت حزين لدرجة تردد الشعر بنبرة مليئة بالكآبة والأسى؟ ولماذا أرى أمارات الحزن ظاهرة على أسارير وجهك في مثل هذا اليوم؟ فهل لك يا ولدي أن تصاحبني إلى منزلي، لعلي أستطيع أن أساعدك في تخفيف حزنك؟
رضي الفتى بمرافقته إلى منزله لما رأى منه من لفتة الحب والحنان وشعر كأنه نزل من السماء ليخفف من حزنه ويواسيه في بؤسه، عاد راشد إلى بيته بعد شراء البقالة مع نزيله، وأخبر أهله عن نزيله الجديد وأمرهم بأن لا يدخروا وسعا في حفاوته ووفادته، أعدوا له الغداء الفاخر، وجلسوا جميعا حول مائدة أنيقة، فأكلوا وشبعوا، بعد الغداء قضى الساعات السعيدة مع أعضاء أسرة راشد ما جعله ينسى حزنه، ثم دعاه راشد إلى غرفته الخاصة ليخلو إليه ويسأله عن أسرار حزنه. عندما دخل الفتى أغلق راشد الباب.
وهذا ما دار بين راشد ونزيله في الغرفة من كلام:
راشد: أرجو أنني كنت موفقا في محاولتي للتخفيف من حزنك وإعادة البسمة على وجهك.
الفتى: بالطبع يا عمي، لقد جعلتني أنسى همومي وأشعر كأني بين أهلي، لن أنسى صنيعك طوال حياتي.
راشد: فهل لك يا ولدي أن تعرفني بنفسك وتفضي إليّ بسر حزنك وتكشف القناع عن أسباب اكتئابك؟
الفتى: على الرحب والسعة يا عمي، اسمي حامد، أنتمي إلى مظفرفور بولاية بيهار، أسكن في شاهين باغ في شقة مع بعض زملائي، أتابع ماجستر في علم السياسة في الجامعة الملية الإسلامية مع مواصلة العمل في إحدى الشركات، توفي أبي قبل سنتين، بعد وفاة أبي لم يبق لأهلي سند سواي، فكلفني ربي بتحمل مسؤوليات أبي ومساندة أسرتي، وقررت ألا أترك دراستي، بل أواصلها مع مواصلة الوظيفة، فهيأ لي الله الأسباب حسب التزامي وعزمي، وهو كما قال المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
ويأتي على قدر أهل الكرام المكارم
راشد: أحزنتني وفاة والدك كما أدهشني التزامك بمواصلة الدراسة مع الوظيفة، كيف تتمكن من حضور الفصل مع مواصلة العمل؟
الفتى: أعمل ليلا وأحضر الفصل نهارا.
راشد: فمتى تنام؟
الفتى: بعد حضور الفصل أنام ثلاث ساعات في النهار حتى المساء وأربع ساعات في الليل بعد الانتهاء من العمل حتى الساعة الثامنة صباحا.
راشد: هل لي أن أعلم لماذا كنت حزينا جدا في مثل هذا اليوم؟
الفتى: في الحقيقة، هذا أول عيد أحتفل به بعيداً عن أسرتي وأعزاءي في موطن الغربة، وهذا ما جعلني أتذكر لحظات قضيتها مع أهلي في الأعياد الماضية، ما أجمل كانت هذه اللحظات! لحظات منعشة، لحظات تفوح بذكريات عطرة، لحظات تتدفق بفيضانات النشاط والحيوية، لحظات تطير بالنفس إلى ذروة النشوة.
راشد: نعم يا ولدي، لا يحلو العيد إلا مع الأهل والإخوان، أنا أيضا قضيت أربعة أعياد في الغربة وأستطيع أن أفهم أحزانك ومشاعرك. هل لي أن أعلم أين كنت تتوجه عندما رأيتك؟
الفتى: كنت أتوجه لمطعم لأتناول شيئاً.
راشد: هلا تناولت شيئا حتى الساعة الثالثة مساءً؟
الفتى: بصراحة، أنا وحيد في شقتي، جميع زملائي ذهبوا لبيوتهم ليحتفلوا بالعيد مع أسرتهم، بعد أداء الصلاة تناولت بعض الحلوى، ثم دخلت غرفتي وأغلقت الباب بإحكام لأخلو بنفسي عن العالم، وطرحت جسمي على الفراش، وجعلت أتحدث إلى نفسي وأقول:
"ما أقفر هذا العيد بالنسبة لي! إنه يملأ قلبي بالكآبة والوحشة، أشعر كأني لم أعد موجودا، أنا في غرفتي بمفردي، لا أحد برفقتي، ذاكرتي ترجع بي إلى الأعياد الماضية لتختلس تلك اللحظات الجميلة التي قضيتها مع أعضاء أسرتي في الأعياد الماضية، ولكن في هذا العيد، ليس بوسعي إلا الإغلاق على نفسي باب غرفتي لأنعزل بها عن العالم، كيف يحلو لي العيد وأنا بمعزل عن أهلي، وأعزائي. ياللوحشة! لماذا فارقتهم، ولماذا هجرت منزلي لأتذوق المرارة في يوم ينعم فيه العالم بالحلاوة؟ آه! حتى شهر رمضان كان مليئا بالتحديات بالنسبة لي، لم أستطع فيه حضور الفصول للصيام والعمل الشاق والإرهاق الشديد، وذلك ما جعل بعض المعلمين يسيئون الظن بي ولا يولون بي اهتماماً. حتى يوم العيد، بعض المعلمين لم يصافحوني بطلاقة الوجه كما كنت أتوقع، وذلك ما زاد من كآبتي بأضعاف، ليتهم يعلمون حالي!"
ومع هذه الهواجس في نفسي أغمضت عيني لأحاول النوم، ومازلت مستلقيا على فراشي لساعتين، ولكن الهموم طردت النوم عن عيني، وكيف يسوغ لي النوم إذا كان رأسي مثقلا بالهموم! لذا نهضت من فراشي لأتواصل مع أهلي وأخرج لأتناول بعض الشيء، وبينما كنت في الطريق لقيتك بالصدفة.
راشد: كن قويا يا ولدي، وكن واثقا يوما ما ستنقشع سحب الهموم والأحزان، هل فكرت يوما لماذا تتحمل كل هذه المتاعب؟ إنما تفعل ذلك في سبيل إسعاد أهلك، تفعل ذلك لكيلا تفارق الابتسامة شفاه أمك، وأشقائك، وشقيقاتك، إنما تضحي بسعادتك لكيلا تذبل حياتهم السعيدة، هذه ليست قصتك فقط، بل إنها قصتي عندما كنت بعيدا عن أهلي وقصة كل من فارق الأهل وقصة كل من يشقى ليسعد أهله. لتعلم يا ولدي أن صرح السعادة يقوم علي عماد التضحيات، لا شك أن الظروف محرجة بالنسبة لك في هذه الأيام ولكن يجب أن تعلم وتعي أن هذه سنة الله في الأرض: إذا كان المرء يمر بأوضاع صعبة تترشح له الصعوبة من كل إناء لمسه، وإذا ابتسم له الحظ تغمره البسمات من كل صوب. كن واثقا يا ولدي يوما ما ستنتهي الأيام الصعبة وتكتنفك السعادة من كل اتجاه، ولكن هذا يتطلب الصبر الطويل والجهود المضنية، لأن البدر لا يطلع إلا إذا شق رداء الليل، والفجر لا يدرج إلا من مهد الظلام.
الفتى: شكرا يا عمي، لقد ملأتني كلماتك قوة وثباتا، أعتقد أنك ملك بعثك الله إلي لتجبر خاطري وتربط جأشي، أعدك يا عمي بأني سوف أزال صابرا صامدا ولا أبرح حتى أبلغ هدفي المنشود وحتى تتجسد أحلامي.
راشد: حسنا يا ولدي، وفقك الله وأعانك، ولا تترد في زيارتي عندما تكون بحاجة، أنا دائما بجنبك.
بعد المحادثة خرج حامد من الغرفة وودع راشد وأهله وتوجه إلى شقته مسرورا.