الفجوة الجيلية
(القصة الفائزة بالجائزة الثانية في الفئة الأولى، فئة الدكتوراه في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
د. علي أختر*
استبدت بالورقة الصغيرة كآبة خالطها حنق شديد على الدوحة الشامخة التي كانت مرتبطة بغصن من أغصانها الغليظة المتشعبة. كلما هبت الرياح تراقصت أوراق كثيرة في الهواء مختالة متعالية، تنظر الورقة الصغيرة إليها نظرة غبطة يملأها يأس وحزن على قيدها، تشعر كأنها مغلولة عنقها، مصفدة أيديها.
كانت الرياح تعصف ذلك اليوم مصفرة تذرو أوراقا كثيرة، صغيرة وكبيرة، وتعلو بها في علياء السماء. تبخترت الأوراق مزهوة بعلوها، سعيدة باستقلالها ومنتشيه بقدرتها على اعتلاء عواتق الرياح، ترتفع وتهبط وتتجه حيث تشاء. هبطت ورقة ومرت بالورقة الصغيرة تسخر منها. لم تقدر الورقة الصغيرة على الإغماض عما في عينيها من اعتزاز بنفسها وازدراء لها. امتلأت نفسها غيظا على الدوحة العجوز التي ظلت تمسك بها وتقيدها بسلاسل أغصانها ولا تدعها تنعتق منها. ما أغباها! ألم تكن تدري أنها هي الأخرى أحبت أن تطير كغيرها في أرجاء الفضاء وتسافر على كواهل الرياح إلى قمة العلى؟
لم تخف على الورقة الرفيقة لها عواطفها وطموحاتها وقد حاولت أكثر من مرة أن تبين لها أنها ليست الغباوة بل الفجوة الجيلية التي حالت بين الدوحة وبين طموحاتها، ولكن عقلها أبى أن يقبل هذا التبرير التافه. لم تقدر أن تفهم أن الدوحة التي هي جزء منها وتحيا بأوصالها وتتغذى بأوداجها كيف تستطيع أن تغفل عواطفها وتجهل طموحاتها! جاء يوم وفارقتها رفيقتها كذلك. فازت بحريتها من الدوحة وغابت في الفضاء. لم تعثر لها على أثر بعد ذلك اليوم. كانت تتخيلها تطير في الهواء وتعرج إلى السماء فتمتلئ نفسها غبطة على نصيبها.
أتظن أنها لم تبذل أي جهد لأن تنفصل عن الدوحة الهرمة؟ بل كلما هفهفت الرياح، رفرفت جناحيها وسعت جهدها لانتزاع نفسها من براثن الدوحة، ولكن لم تدر ما الذي شدها إلى الدوحة ولماذا لم تستطع بعدُ قطع حبلها منها. أ كانت الأحاديث الحصيفة التي كانت تستمع إليها من ورقة كبيرة لبيبة تجاورها، قد خفّفت من قوة إرادتها رغم شدة طموحها، أم كانت عنجهية الدوحة التي لم ترغب في إعتاقها في أي حال، قد عاقتها من حريتها وحرمتها من سعادتها؟ لم يسع عقله الصغير الوصول إلى كنه الحقيقة فقررت أنها ستحدث إلى الورقة الكبيرة بصراحة في الأمر.
ولما انخفضت سرعة الرياح، اقتربت من الورقة الكبيرة وباحت لها بكل ما يختلج في جوانحها وكشفت لها عما يطمح إليها قلبها وصارحتها بقرارها.
- لم أعد أطيق أن أضيع لمحة من حياتي مع هذه الدوحة الهرمة.
أفزعت الورقةَ الكبيرةَ ثورةُ فكر الورقة الصغيرة وصرامة قرارها وارتأت أنه قد آن الآوان أن تجاهرها بالواقع المخيف، فسألتها:
- أتدرين أين تذهب الأوراق بعد انفصالها عن الدوحة؟
في لمحة خاطفة، لمعت في عيني الورقة الصغيرة أشباحُ جميع المناظر الخلابة التي تكوّن منها عالم أحلامها. وسارعت إلى الإجابة:
- تتلاعب هي في الفضاء الرحيب بحرية وتطوف بالعالم محمولة على عواتق الرياح والعواصف الهوجاء بدون خوف، ولهذا السبب لا نراها ولا نعثر لها على خبر بعد ما تنفصل عنا.
- ليت ما تقولين كان صحيحا!
أحدثت الورقة الكبيرة زلزلة في قصر أحلامها الزجاجي.
- لا تبصرينها لأن الدوحة التي تطعنينها بالهرم تحتضنك في مكان مرتفع لا تنظرين منه إلا ما هو فوقك. والحقيقة أن الأوراق التي تقطعها نفحات الرياح من الدوحة وتبعدها منها وتبعثرها، ترتفع في الفضاء قليلا وتتسكع ما دامت الرياح تهبّ وتحملها، وما إن تقف الرياح وتخذلها حتى تتردى متعبة متهالكة، وتتمنى لو احتضنتها الدوحة من جديد كما كانت تحتضنها من قبل، ولكن هيهات! لقد فات الأوان. ترقبها الدوحة تسقط وتهبط إلى الأرض، فترثي لها ولكن لا تجد سبيلا إلى أن تنجدها وتسندها مهما شاءت. تنهار الأوراق إلى الأرض متخاذلة، منهوكة، لم يعد يربط بينها وبين الدوحة وأغصانها وأوراقها إصر ولا آخية. تصير غريبة بعضها على بعض. وتبقى مطرودة تُداس تحت أقدام المارين. لا أظن أنك حاولت من قبل أن تغضي بصرك وتنظري إلى الأسفل.
حملقت الورقة الصغيرة وفي نظرها ارتياب الى الأرض من خلال الأغصان المتعرجة من الدوحة، والأوراق المتهدلة منها. لمحت أكواما من الأوراق الصفراء الجافة المهشمة، ممتدة حول الدوحة إلى لا نهاية. وفجأة تسمرت عيناها على شيء. انهار قصر احلامها وانتشرت قطع زجاجه داخلها تجرح روحها أكثر من الجسد. لم يصعب عليه تمييز الورقة الرفيقة لها من بين أكداس الأوراق.
كانت الورقة الكبيرة تراقب بشفقة الورقة الصغيرة غارقة في خضم عواطفها، فتنحنحت وسألت تنتشلها من أفكارها:
- ألم تبلغ مسمعَك تنهداتُ الدوحة قط؟
- أجل، سمعت في بعض الأحيان تشهق في صمت الليالي وكنت أظن أنها تبكى حبا لنا و إشفاقا علينا.
أجابت الورقة الصغيرة بصوت خافت خلا من النبرة الصارمة التي طبعت كلامه قبل قليل.
- لا، ليس سبب شهقاته حبها لنا الأوراق العائشة بها.
صدمتها الورقة الكبيرة صدمة أخرى.
- تعرف الدوحة أن الأوراق الملتصقة بها لن يمسها ضرر في حضنها الحصين. إنما تبكي على الأوراق التي انفصلت عنها غطرسة وأضحت ملقاة مهانة عند قدمها تدوسها أقدام المارين، ولا تستطيع ولو شاءت أن تسعفها وترفع بها وتضم إليها. وما برحت تعتبر نفسها مسؤولة عن تعاستها، مسؤولة عن اليوم الذي فصلتها عن نفسها مضطرة بإلحاح الأوراق وبحبها لها. لو لم تأذن لها لما آلت حالها إلى ما فيها الآن من بلاء وشقاء.
أدارت الورقة الكبيرة وجهها عن الورقة الصغيرة إخفاء لدموع كادت أن تنسكب من عينيها.
لم تنبس الورقة الصغيرة ببنت شفة، فقد تبينت لها الحقيقة ساطعة. نظرت إلى أختها الورقة الكبيرة نظرة ملآنة بالشكر والامتنان ولم تحاول مقاومة دموع بدأت تنهمر من عيونها، تمتزج بأحاسيس الشكر والطمأنينة والعرفان بالجميل. تشبثت بالدوحة وطوقتها بيديها، مغمورة بعواطف الحب والإجلال لها. لم تعد الدوحة سجنا يحصرها، بل حصنا يحفظها ويرعاها.
**********
* حاصل على الدكتوراه في مركز الدراسات العربية والأفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند.