من يُحيي ومن يَحيى !
قصة لـ: مانك بندوبدهاي (أديب وقاص وروائي بنجابي هندي)
ترجمة لـ: الباحث عبد الله/ الهند
------------------
رأى مريتُنجاي في طريقه إلى المكتب لأول مرة حالة موت من الجوع! كان يسمع ويقرأ فقط عن أخبار الموت على الرصيف حين وقع نظره عليه اليوم لأول مرة. لم يحتج إلى المشي كثيرا على الرصيف وبلا ريب تحققت له الرؤية قبل فترة طويلة. عادة ما يخرج من منزله ويخطو بضع خطوات يركب الترام وينزل أمام باب المكتب. كان منزله في حي منعزل، ليس به أرصفة كثيرة والناس لا يذهبون ليموتوا فيه على الأقل. وفي تلك الأثناء كان الخادم وأخوه الصغير يذهبان إلى السوق ليتسوقان.
في غضون دقائق، مرض جسد مريتُنجاي السليم، وبدأ جسده يتفاعل إذا به يشعر بوجع في قلبه وكأن ألم جسده تماشى مع ألمه النفسي، دخل في غرفته الصغيرة بعد ما وصل إلى المكتب وجلس على الكرسي بجلبة ولبرهة أصبح ضعيفا تماما. وذهب إلى الحمام بعدما جلس أغلق عليه الباب وتقيأ كل ما أكله في البيت من الأكل المقلي والعدس والخضروات والسمك والحليب والأرز. وجاء نيخيل من الغرفة المجاورة للاستخبار، حينها رجع مريتُنجاي من الحمام وشرب الماء في كوب زجاجي وهو يحدق في الجدار بعد افراغه تماما ووضعه تحته.
كان هو ونيخيل في منصبين متساويين تقريبا، راتبهما متساو، يحصل مريتُنجاي على خمسين روبية زيادة لشغل إضافي. نيخيل رجل سقيم وفطن وكسلان نوع ما. وتزوج قبل مريتُنجاي بسنتين وأصبح والدا لولدين خلال ثماني سنوات. لكن لا رغبة له في العائلة، يريد أن يقضي الحياة بعد التقاعد في قراءة الكتب وبناء عالمه الفكري.
كان (نيخيل) معجبا بمريتُنجاي إعجابا شديدا مثل الآخرين ولعله يحبه بشيء من الإهمال اليسير ليس لأنه رجل هادئ وصالح أو لأنه رجل كريم وبسيط بل لأنه يمثل أيديولوجية لأسطورة تراثية قديمة وناسك في الثقافة الإنسانية. لا ريب من أن مريتُنجاي متعبا ضعيف الفكر، تعذله ركام الظلمات في نفسه إن كان من الممكن ازعاجه بطعن ولكن تفاعل نفس مريتُنجاي الهادئ ليس بواهن، بل كان مصدر للقوة، تلك القوة التي أنفقها في محاولة جعل المستحيل ممكنا في عالم الإنسان. فلذا قد يخضع نيخيل لمريتُنجاي ويفكر في ذلك الوقت في حسد المسكين وأنه ليس قبحا إن كان هو مريتُنجاي بدلا من أن يكون نيخيلا.
خمن نيخيل من مظهر مريتنجاي بأنه واجه مشكلة كبيرة ويدفع رأسه في ألم مشكلة صافية بغير سبب وغير معقولة مثل نحلة محبوسة في زجاجة شفافة.
يا رجل، ما الذي أصابك؟ سأل نيخيل بحذر.
كما أن مريتنجاي صاح وقال بخطاب غامض وغير منتبه: مات! مات جوعا!
بدا لنيخيل بعد أسئلة عدة أنه يرى داخل مريتنجاي بوضوح، إنه (مريتنجاي) لا يستطيع أن يفهم أمرا بسيطا وسهل الفهم كالموت جوعا على الرصيف، وهذا ليس مستغربا، كان يحاول إدخال المواضيع كجبل في مخيلته الصغيرة؛ يالفظاعة الجوع على الرصيف أي نوع من الموت حصل عليه؟ الموت جوعا، ما هو وكيف؟ ما مدى صعوبة الموت جوعا وأي نوع من الألم هو؟ هل ألم الجوع أكبر أم فظاعة الموت أشد؟
ولكن (مريتنجاي) أجاب عندما سأل نيخيل: أنا أفكر بشكل آخر، ما هي كفارة ذنبي للرجل الذي مات جوعا وأنا حي أرزق؟ علما بأني أكل أربع مرات حد الشبع ومنذ زمن، علما أنه-لا تتم عملية الإغاثة بشكل كامل لقلة الناس ومن جهة أخرى لا أجد سبيلا كيف أقضي وقتي، ويلا! ويلا! مئات المرات.
ظل نيخيل صامتا بعدما رأى عيني مريتنجاي مغرورقة بالدموع، لا يوجد ما هو أكثر عدوى من العطف في هذا العالم. ويقلق قلب نيخيل أيضا. لو جُمِعت كل شفقة البلد وانسكبت فلن تنطفئ نار هذا الجوع بل ستصبح قبرا بدلا من الطعام. كيف يتولد طلب الطعام للعيش في الناس إذا لم يزل تعتبر الخطيئة غير الطبيعية مثل التصدق ثوابا؟ يمكن تحويل المبادئ الحقيقة القاسية إلى مبادئ روحية جميلة ولكنها غير شرعية، وستحرق نار المحرقة الأحياء جميعا في العالم لو وضعوا فيها رغم أنها أحرقت آلافا من الموتى.
حمل نيخيل الجريدة وهو يفكر في قلق هذه الكلمات ووقع نظره في موضع منها أنه اُنتقد انتقادا حزينا بأن مجموعة العشرين من الموتى لم يتم إرسالهم إلى الجنة بإحراق الجثث (حسب العقيدة الهندوسية) بطريقة جيدة.
بعد أيام حان موعد الراتب، كان على نيخيل إرسال روبيات إلى ثلاثة أمكنة في كل شهر، فكر أمام إستمارة الحوالة البريدية آخذا قلمه بيده هل يخصم خمس روبيات في المساعدات الثلاث؟ جاء مريتنجاي إلى غرفته وجلس، ومنذ ذلك اليوم ظل وجهه مشيحا حزينا وعابسا، لا يتكلم مع نيخيل كثيرا.
عليك أن تعمل لي عملا، يآ أخي، وضع مرتنجاي حزمة من الأوراق النقدية-أن تدفعها إلى أي صندوق للإسعاف.
لماذا أنا؟ أنا لا أستطيع.
عد نيخيل الأوراق بهدوء.
كل الرواتب؟
نعم!
في منزلك تسعة أفراد، لا يكفيهم راتبك الشهري، عدا ذلك أنت تستقرض المال كل شهر، قال مرتنجاي -وإن يكن- علي أن أفعل شيئا، يآ أخي، لا أستطيع أن أنام الليل ولا أن آكل الطعام عندما أجلس لتناوله، أتوقف لساعة من الساعات الثلاث في اليوم لأوزع حصتي وحصة والدة تونو من الأرز.
ينظر نيخيل إليه بلا حدق ويبدو أن وجه مرتنجاي السمين ظل صامتا كما أنه يعاني من الحمى، لأنه يحترق في الداخل بلا ريب.
صحة والدة تونو تبدو أنها ستكون على قيد الحياة من 15 الى 20 يوما بتناول الطعام مرة في اليوم. قفز مرتنجاي بعد سماع هذه الملاحظة، ماذا أفعل؟ كم مرة قلت لها وكم أفهمتها؟ لا تسمعني ولا تناول الطعام إذا لم أتناوله، أليس هذا غير عادل؟ ألا يكون هذا ظلم؟ إن تمت (هي) تمت جوعا.
فكر نيخيل أن يُفهم صديقَه بوضوح أنه لا يمكنه إنقاذ شعب البلاد بهذه الطريقة، إن الأكل المتوفر سيكون في فم شخص ما، والإسعاف الجاري هو مجرد إطعام شخص بدلا من آخر، وليس هناك سوى العزاء في محاولة إنقاذ بعض الذين يموتون أمام العيون بترك أولئك الذين يموتون وراء الجدران، ولكنه لم يستطيع نطق هذه الكلمات، علقت في الحلق. واكتفى بالقول أن الإفراط في تناول الطعام ظلم ولا ينبغي أن يموت أحدهم دون أكل، أنا قللت قدر الإمكان من وجبات طعامي، وأتناول ما يسد الرمق للبقاء على قيد الحياة، جمعها (القوت) وسآكلها ولو كان بإمكاني لوهبت نفسي دون إعطائها أي شخص ولو مات كل الناس في البلاد، أنا لا أتكلم من وجهة نظر أخلاقية بل من وجهة نظر اجتماعية أن قتل نفسك دون طعام أعظم جرما من قتل عشرة أشخاص.
هذه أنانيه ووحشية، أم أنها أنانية من الذين يموتون جوعا؟ ولو جُعلوا أنانيين بدلا من إعطائهم ملعقة من حساء الشعير ما كانوا ليهلكوا جوعا مع وفرة الطعام في البنغال ولو كان الزاد في المخزن على بُعد آلاف الأميالٍ الذي يغلق بواحد وثلاثين قفلا.
نهض مرتنجاي قائلا: أنت مجنون، مجنون تماما.
يوما تلو الأخر صارت حالة مرتنجاي تؤول إلى مرحلة غير معروفة، يأتي إلى المكتب متأخرا ويرتكب الأخطاء في عمله، يجلس بهدوء وهو يفكر ليخرج في وقت غير معين، ولا يتواجد في البيت، يتجول في أزقة المدينة القديمة بلا نهاية.
ينظر مرتنجاي إلى الذين يرقدون بجانب القمامات والممرات المفتوحة تحت الأشجار في جوف الليل ويزحفون إلى الصف الأمامي ويبحثون عن مأوى أفضل بعد إغلاق المتاجر، والذين يصطفون (للطعام) منذ الساعة الرابعة صباحا، ينظر إلى حشد السائلين للطعام بعد بحثه عن أماكن توزيع الأكل المطبوخ للفقراء.
في البداية صار يتحدث مع عدد من الرجال والنساء أما الآن فقد توقف عن الكلام معهم، كلهم يقولون نفس الشيء لغتهم وكلماتهم تتشابه وبنفس الأسلوب، إنها قصة القدر البائس بصوت ضعيف كأنه نسيج لرجل مخمور نصف واع، لا شكوى في الصدر ولا اختلاج للقلب، فهم لا يشعرون من أين وكيف انقلبت الحياة عليهم ولكنهم ببساطة استسلموا لها.
كانت حالة منزل مريتُنجاي مؤسفة، حيث لازمت والدة تونو الفراش ومن على فراشها تتقفى أثر زوجها وترسل الصغار والكبار مرارًا للبحث عن زوجها ولكن دون جدوى أين يجدونه وسط تلك الحشود الكبيرة من الناس القادمين إلى هذه المدينة العظيمة، يرجعون بعد قضاء بعض من الوقت خارجا، ويكذبون على والدة تونو بأن مريتُنجاي سيأتي قريبًا. ومع الخبر الكاذب، يجلس كل مَن في البيت في رباطة جأش، وبعضهم بوجه باك، والأطفال يبكون من مرارة الجوع والإهمال وعدم وجود من يهتم لأمرهم.
كان نيخيل يأتي مرارا، إلى والدة تونو وهي تطلب منه أن يراقب مريتنجاي ويبقى معه، فيقول نيخيل إذا تحسنتِ واعتنيت بالمنزل فسأبقى معكِ لأطول فترة ممكنة.
تقول والدة تونو، لو استطعت أن انهض لكنت قد مشيت معه، يا أخ زوجي، تمشين؟
بالتأكيد، منذ أن صاحبته، أصبحت مثله، وقد أصبحَ مجنونًا، صرت أشعر بأني سأصبح أنا أيضا مجنونة. في الحقيقة أنا لا أفكر في هؤلاء الأطفال فقط. بل أتذكر أولئك الناس على الرصيف، فقد ذهب بي إليهم ليومين أو ثلاثة أيام.
بعد صمت طويل، قالت والدة تونو مرة أخرى، حسنا، ألا يمكن فعل شيء من أجلهم؟ جن جنونه، ما هذه الفكرة التي تولدت عنده، حتى لو تبرع بكل ما لديه لَمَا تغير من حالهم شيء، وأحس بخيبة أمل كبيرة في نفسه. يدركه اليائس يوما بعد يوم، يسمع نيخيل ويتحول وجهه الى لون أسود.
مريتُنجاي لا يذهب إلى المكتب، رتب نيخيل إجازته بعد محاولة، بعد انتهاء العمل في المكتب يذهب إلى مريتنجاي - والآن قد أصبحت الأماكن التي يرتادها معروفة إلى حد كبير، كما أنه يقضي ساعة بعد ساعة مع مريتُنجاي، ويُسمِعُه كلاما يعكس بطرق مختلفة، وينقض حججه السابقة بنفسه. يَسمع مريتنجاي لكن عيناه تقولان بأنه لم يعد يفهم معنى الكلمات، وأصبحت الكلمات غامضة بلا معنى لدى تجربته، ثم تخلى عنه نيخيل تدريجا.
وبعد ذلك اختفى القميص الحريري المغبر عن جسد مريتنجاي. وظهرت الخرقة الممزقة للتكسي بدلا من دهوتي (الإزار)، وأصبح الغبارالمجتمع على الجسم مرئيا. غطت اللحية الوجهَ، يضطجع على الرصيف مع عشرة آخرين مع كوب صغير في يده، ويأكل خيجري بعد مشاجرة ومعاركة بينهم ويقول: قدمت من القرية يآ أبي. لم أتناول الطعام فأطعمني!
۞۞۞