وقائع المنفى
(قصة ميثولوجية)
قصة لـ: ناميتا غوخالي
ترجمة لـ: د. مخلص الرحمن/الهند
------------------
لقد وصلني الخبر الآن بأن ملكتي قنداري قد توفيت عندما دخلت في حريق الغابة مع زوجها الملك دريتاراشترا وشقيقة زوجها كونتي، فالبلاط في حداد، والكهنة يلقون خطب التأبين، والناس العاديون - أو البقية منهم - في صدمة وذهول. هذه التضحية بالذات تمثل نهاية عصر. شهدت هذه المدينة عددا كبيرا من الوفيات. كانت الجثث متناثرة لأشهر في ساحة المعركة في كروكتشيترا بعد الحرب. وكانت الضباع تندفع من الغابة بذراع أو ساق أو كتلة من اللحم أو أي شيء آخر. لم يكن هناك حطب في هاستينابورا لإحراق الموتى. ولا يكفي اثنان أو ثلاثة من أغصان من الحطب لإحراق جثة مجاهد. كانت الأرامل يَفْرِزن ركام الجثث المقطّعة بحثا عن أزواجهن، وفي كثير من الأحيان عن أبنائهن أيضًا. وكنّ يرفعن أيديهم المُتَعَفّنة للتعرف عليهم بواسطة الخواتم أو الندوب الموجودة على الرُسغ. كن يفحصن تلك الجثث بدهشة كما لو كنّ لا يستطعن أن يتذكرن أو يصدّقن بأنهن كنّ من النساء العاديات يوما ما، اللائي ضممن هؤلاء الرجال بين أذرعهن، وهم ضمّوهن، أو أنجبنهم كأطفال.
كن يحاولن إحراق الجثث بالقش، لكن الدخان كان يتصاعد ولا تشتعل النيران. ذهب الرجال الكبار إلى الغابة بعيدًا حتى وصلوا إلى غابة دُويتفانا، لكن أعواد الحطب الذي جلبوه كان صغيرًا وما زال النسغ يخرج منه. كانت رائحة العفن والموت تصل إلى أنوفنا، واستقر الدخان الرطب الناتج عن حرائق الجنازة مثل بخار نَتِن فوق حدائق المتعة المتروكة ومباني الاجتماعات المهجورة والقصور المنعزلة. وكانت رائحة طبخ الأرز تُبهج القلوب في بيوت الفقراء المتواضعة، وأحيانًا يكسر ضحك الطفل الصمت المحزن، ولكن في القصور قد توفي الأطفال جميعًا حتى الشباب أيضًا. والآن، توفي كبار السن، بما فيهم دريتاراشترا، وملكته قنداري، والأم الملكة كونتي، بعد أن التهمهم حريق غابة.
لا بد أنها أحست بالنار قبل أن يحسّ بها الآخرون مع أن عينيها كانتا مضمدتين، لأن قواها الذهنية أكثر حدة لديها من معظم الآخرين. لا بد أنها سمعت وفهمت التحذير الأول – وهي صرخات الطيور التي كانت تحلق فوق الأشجار العالية. ربما كان الخوض في النيران فكرتها الوحيدة إذ كانت تتسم قنداري بالشذوذ، وكان من طبيعتها أن تسبح ضد التيار، وتخالف المألوف، وتجعل الأمور شاقّة عليها. وكانت كونتي مختلفة وناجية. عندما كان أبناؤها في المنفى لسنوات هي عرفت بشكل أفضل بأن لا تجلب الخطر. فلم أكن أعرف على الإطلاق امرأتين مختلفتين بهذا الشكل. ولكن كانت كلتاهما قويتين وعنيدتين.
دخلت كونتي في النار مع سيدتي قنداري كما فعل دريتاراشترا الأعمى. يعرف الخدم أسيادهم أفضل مما يعرفون أنفسهم، ويتوقعون أخطاءهم بشدة مثل رغباتهم. لم تعاقبني قنداري إلا مرة واحدة. كان هذا هو امتيازها الكريم، لكن الحياة عاقبتها بشدة. لها مائة من الأبناء، ولم يعش منهم إلا واحد، لا يستحق أحد مثل هذا الألم. لم آكل ولم أنم منذ أن اطلعت على الخبر. لم تمسك أصابعي، التي كانت نشطة للغاية، مشطًا منذ خمس سنوات حتى الآن. قد ماتت ملكتي التي خدمتُها طوال حياتي وقمت بتمشيط شعرها وتزييته وتضفيره ورأيته يتحول إلى اللون الرمادي ثم الأبيض. كنت فقط أعرف كيفية إحراق الشعر المنفصل في جديلتها بضربات سريعة أكيدة بعود بخور متوهج. الآن، أنا مع أخت زوجها كونتي، التي تخلت عن الحياة، وخطت بإرادتها في نهر من النار. وعندما كانت الثعابين تهرب عن جحورها، و القرود واللانغور تتسلق عبر الجذوع المحمومة للأشجار المتوهجة، والطيور تحلق وتبكي على أطفالها الصغار الذين لم يستطعوا الطيران، وتشاهد أعشاشها تنصهر، دخلت قنداري في اللهب لتلمّ بمعرفة الضوء. وتبعتها كونتي. كانت كونتي نفسُها رفضت النيران عندما كانت صغيرة، وابتعدت عن المحرقة حيث كان زوجها باندو يحترق، واعتنقت الحياة عندما كانت قررت ضرّتها مادري أن تموت مع باندو. وكانت ابتعدت عن نيران المحرقة الجنائزية معزّيةَ أبنائها الباكين؛ يوديسثيرا، بيما، أرجونا، ناكولا وساهاديفا. وُلد ناكولا وساهاديفا من رحم مادري، لكن كونتي أحبهما أكثر من أجل ذلك. الآن هؤلاء الأولاد دمروا فخر نسبنا، وقتلوا مائة الأبناء لملكتي، وهم يحكمون منتصرين على هاستينابورا. ومع ذلك، اختارت أمهم كونتي الدخول في النار مع ملكتي. أسألُكَ لماذا؟
أما الرجل العجوز دريتاراشترا فلا أستطيع أن أفكر فيه. ما كان ينبغي لنا أن نترك قندارا أبدا وأن نسمح لأنفسنا بأن يُغرينا ذهبه وصُندُوق مجوهراته لمغادرة الجبال. ما الذي كنا نفتقر إليه هناك؟ لا شيئ! لم يكن ينقصنا شيء. أعطتنا الجبال الثلجية البركة والنعمة، وكنا نتمتع بقسط وافر من الفواكه والزهور خلال الفصول. كان الهواء يقبّل ويداعب جلودنا مثل الحبيب. وكانت رائحة الورد والصنوبر الحلوة موجودة دائما في الهواء. وفي الصيف كانت الجبال تلمع في الضباب. وكان النسيم البارد ينعش المدينة بحلول المساء. كانت أميرتي تفتح نافذة غرفة برجها، وتطلب مني فتح ضفيرها. كنا نجلس معًا بجانب النافذة وأفُكّ تشابك خصلة شعرها وأمشطها مع أن الرياح كانت تُشابكَها مرة أخرى.
كنت أصغر منها، لكني أتذكر كل شيء عن قندهارا بالرغم من أن الذكريات فقدت وضوحها. لم يكن الجو حارًا ومغبرًا كما هو الحال هنا في هاستينابورا، وكنا قد انخدعنا في قرارنا في المجيء هنا. جاء رسل بيشما الكاذبون إلينا حاملين الهدايا والذهب بما فيها عندليب في قفص مذهّب، وطائر ميناه الذي كان يستطيع أن يتحدث مثل الرجل، أو ينبح مثل الكلب. استمتعت قنداري بهذه الهدايا، ولكن والدها هو الذي اتخذ القرار، والذهب هو الذي أثّر في قراره.
جاء الملك سوبالا إلى غرفتها ظهرا في ذلك اليوم، بينما كانت جالسة بجانب النافذة محدقة في الجبال الثلجية، وكنت أقوم بفك ضفيرها. نهضتُ على قدمي بعصبية، لأن الملك لم يسبق أن زار ابنته في غرفتها من قبل. أعلن بصوت أكثر صرامة مما طالبت به المناسبة: "عليك أن تتزوجي من دريتاراشترا، ملك هاستينابورا".
سألت أميرتي: "هل هو وسيم؟"، وكانت عيناها متلألئتين بالحماسة، وظهرت غمازتها الفاتنة على وجهها مثل شروق الشمس.
قال والدها: "لقد قيل لي هكذا". يجب أن تغادري غدا. سيرافقك أخوك زاكوني وأي اثنتين من خادماتك اللتين تحبين أن تأخذي معك ".
أعلنت أميرتي بحماس: "سآخذ زارا"، وسألت: "هل تذهبين معي يا زارا؟ قلي إنك ستذهبين، من فضلك. أجبتها رسميًا: سأفعل ما تشتهيه أميرتي"، لأنني كنت أمام الملك وأرتجف مخافةَ أن أفعل أو أقول شيئا خاطئا. قال الملك: "الجو حار في الصيف هناك، على الرغم من أن الشتاء بارد. عليكن أن تأخذن بعض الملابس الرائعة لابنتي".
كنت فرحة جدا. لم يكلمني الملك من قبل. تَمْتَمْتُ منحنية إلى حد ممكن: بالتأكيد سأفعل! يا جلالة الملك. استدار سوبالا بشكل ملكي وغادر الغرفة. كانت قنداري تضحك وتبكي في الوقت نفسه. استدعينا خادمتها وبدأنا في البحث عن الحقائب والملابس. قمت بتعبئة إحدى عشرة قارورة من مسحوق اللاك الذهبي لتلميع ذوائبها وتكوين هالَة حَوْلَ رَأْسها. وهو محظور على الجميع إلا الملوك. يُستخرج مسحوق اللاك هذا من الخُنْفَساء الجبلي النادر الذي يُحمَّص على الحرائق البطيئة لمدة شهر وأسبوع. يستطيع هذا الخليط الثمين أن يجعل أكثر الشعر شُحُوباً أن يلمع ويتألق بهالة، ويتنافس مع التيجان الذهبية والأَكاليل المرصعة بالجواهر.
ذهبت قنداري إلى غرفة أمها الملكية لتوديعها في ذلك المساء. وهي كانت مصابة منذ فترة طويلة بمرض غامض لم يستطع أي طبيب ملكي تشخيصه. كان أنفها ينزف باستمرار لأيام متتالية. وكانت الكدمات والرضوض الغريبة تظهر في جميع أنحاء جسدها الشاحب. كانت تشعر بالإغماء عندما تستلقي وتشعر بالدوار إذا تنهض. كان لديها سلسلة لا متناهية من الأعراض المعاكسة التي كانت تتحملها بصبر كبير، حتى حاول السحرة والساحرات والشامان والمنجمون من جميع أنحاء الأرض إظهار براعتهم وكسب تأييد الملك.
نحن دخلنا معا على رؤوس أصابعنا. كان الهواء في الغرفة المظلمة ساكنًا وثقيلًا برائحة البخور الفاسدة والعقاقير والزيوت الطبية المقطّرة. فحصت الملكة ابنتها بحزن وكان وجهها ضخمًا ومنتفخًا، وكانت عيناها غارقتين في بئر من الظلال الداكنة. قالت بتردد: إذن، أنتِ ستزوّجين. ليس من السهل أن تكوني ملكة. ربما يأسره جمالك. ثم أغمضت عينيها مرة أخرى، وتظاهرت بالنوم. اندفعنا للخارج وتنشقنا الهواء النقي في الممر.
وأقام الشباب في ذلك المساء احتفالا لتوديع قنداري، وهو كان مختصا بالأميرات وأبناء عمومتهن فقط. عزف أحد الأولاد على الفلوت بينما غنت البنات أغاني الحب. كان ذلك الولد نحيفًا وجميلًا، وعلى عينيه خطوط من الأهداب الطويلة السوداء. ارتشفنا النبيذ الحلو، وفي النهاية كان الجميع في حالة سكر إلى حَدّ ما. كان عازف الفلوت يلقي بنظرة جريئة على سيدتي. وهي كانت ترد على تقدمه بنظرات خجولة، فأسرعتُ بها إلى غرفتها إذ لم نكن نريد أي مشكلةٍ عَشِيَّةَ يوم المغادرة.
لقد نسيت عدد الأيام التي سافرنا فيها. أولاً، سافرنا في الجبال العالية على ظهور الخيل لأن قنداري كانت قد تعلمت الركوب قبل أن تتمكن من المشي تقريبًا، ثم في الفضلات عبر الممرات العالية. حاول الرجال عبور التضاريس الصخرية المستحيلة، وهم يمسكون بلُجُم الخيول ويقودونها سيرًا على الأقدام. ظللت بعيدًا عن "زاكوني"، الذي كان معروفًا بكونه بغيضا، وكان الملك قد تخلص منه جيدًا في القصر، مع أننا لم نكن نعرف ما سنفعل معه في هاستينابورا.
في مملكة ساليا، كان ملك هاستينابورا قد أرسل فيلين وعربة لاستقبال جماعتنا. آنذاك، كان زاكوني شابًا شاحبًا ونحيلًا وعندما رأى الحيوانات الهائلة، شَحُب من الخوف. جلس في العربة مع النساء، وكنت حذرا على إبقاء البعد عنه. هُمس إلى قندهارا في أذنها أنه حاول تسميم أخيه الأكبر حتى يصبح وليا للعهد. لم يجرؤ أحد على إظهار ذلك غير أننا كنا نعرفه. وكانت له طريقة خاصة في النظر إلى الأعلى فجأة وجذب انتباهك، الأمر الذي كان مزعجًا للغاية.
فقدت أميرتي وزنها أثناء الرحلة، وأصبحت نحيفة، وكان شعرها مُستَرسِلا ومتدليا. نادرًا ما كانت تبتسم، وكانت توجد على وجهها الشاب ظلال داكنة وهاجس لتعبير أمها المرعب. وفي النهاية عندما وصلنا إلى هاستينابورا، تم الترحيب بنا عند البوابة الشمالية بحفل موسيقي من الطبول والمزامير. وأمطروا على عربتنا ببَتَلات الورد. بدت قنداري متعبة وفاترة وغير مهتمة بمحيطنا الجديد. قلت لها: "سنلتقي بزوجك الوسيم قريبًا". يجب أن تظهري أمامه خجولة ورزينة.
دعتنا الملكة الأم العجوز ساتيافاتي. وهي امرأة ثاقِبة النّظَر مع نوع من السخط على وجهها. كانت كَنَّتاها، أمبيكا وأمباليكا، تحومان بعصبية بجانبها. قادنا خدمهم إلى مقرنا الجديد. كان القصر الذي أقمنا فيه رائعًا للغاية. تم بناؤه من الرخام والحجر الرملي الأحمر، وله جدران مرصعة بالجواهر، وفيه أحواض استحمام عميقة للاستمتاع. تم تسخين المياه بحجر النار تحسباً لوصولنا، وزهور اللوتس تطفو فيه بلا فن كما لو كانت في بركة غابة. كنت مفتونًا، وغسلت ودَلَكت أميرتي حتى لم تعد قادرة على تحملها. كان السرير مغطى بالحرير وريش الطاووس، لكنها كانت متعبة جدًا بحيث لا يمكنها أن تلاحظ كل ذلك، فغرِقت في النوم لحظة لمس رأسها الوسادة. نامت ليلتين ويوما واحدا، وعندما استيقظت عادت قنداري القديم مرة أخرى، تغمرها الفرحة والضحك المعدي. عادت غمازاتها إلى الحياة مرة أخرى، وكانت مُتَلَهِّفة على ارتداء ملابسها وتقييم محيطها الجديد.
تم تعيين العديد من العذارى لخدمتنا اللواتي قمن بتزيين شعرهن بأساليب معقدة وفخمة تختلف تمامًا عن الضفائر المزهرة البسيطة التي تفضلها أميرتي. كن يَتَبَاهَيْنَ بالشرائط والخيوط المتلألئة في شعرهم الرقيق. كنت أعلم أن مسحوق اللاك الذهبي الخاص بي سيفوز بالعرض، لكنني لم أستطع أن أظل قانعة. فهرعت إلى السوق، خوفا على أن لا تعد أميرتي قليلة الأناقة، للبحث عن الكوليريوم وشرائط الحرير وعطور الزَبَاد. طبعا، كان بإمكاني أن أطلب من خادمات هاستينابورا مساعدتي، لكنني كنت حريصة على التعرف على مدينتنا الجديدة. كانت شوارع هاستينابورا رائعة وواسعة و دَمِثة ومرصوفة بالحصى بأناقة. اشتريت كل الأشياء التي كنت احتاجها، ثم توقفت للمساومة مع بائع حرير لبعض الشرائط. كانوا يتحدثون هنا بشكل مختلف. كنت أواجه صعوبة في فهم اللغة. ومع ذلك، تمكنت من فهمها عندما علمتُ أنهم يشددون على الحروف الساكنة بشكل مختلف.
- أعلن البائع: "هذه الشرائط مناسبة للملكة".
- أجبته: "الملكة هي التي سترتديها". وواصلت قائلة: "عندما يلقي ملكُك نظرتَه عليها سيحس كما لو شارك في عيد الجمال."
- صار فمه مفتوحا من الصدمة وسألني: "هل تخدمين الملكة الجديدة القادمة من الشمال؟".
- أعلنت بفخر: "نعم أخدمها حقا".
- قال بعصبية: "وأنت لا تعلمين؟"
- سألتُ بقلق: "ما هو الذي لا أعرف؟" "هناك بالتأكيد أشياء كثيرة يمكن أن تندرج في هذه الفئة."
- سألني باهتمام: "ألا تعلمين أن ملكنا الصالح أعمى منذ ولادته؟"
في البداية لم أفهم كلماته، لأنني كنت أقوم بتفكيك الحروف الساكنة حتى أفهمها. سألت بغباء: "هو أعمى". تقصد أنه لا يستطيع أن يرى؟ أجاب على عجل: (ليس عليك أن تدفع ثمن الشرائط). "لا بد لي من إغلاق دكاني الآن." أمسكته بشدة من معصمه وخاطبته. ملكك أعمى؟ "رُدَّ بنعم أو لا!" قال بخجل "نعم"، مع أنه كان مخطئا بطريقة ما. فكرت في أميرتي، وجلدها الناعم، وعينيها الخاليتين من الهموم، وغمازتها. غمرني حزن عميق وأثقل قلبي. تعهدت أني "سأحميها". "سأرعاها أثناء هذا الوقت وسنعود معًا إلى قندهارا". عدت إلى القصر في حالة ذهول. قابلت في الطريق متسولًا وهو جالس على درجات السلّم ويبكي للصدقات. فسألته: "هل لملكك عيون؟" أجابني: "نعم". فظهر في قلبي شعاع من الأمل السخيف، "ولكن ليس بدرجة يستطيع أن يراه". استمر في استغلال الفرصة للصدقات، لكني أبعدته. وصرخت: "لا، من أجل مثل هذه الكلمات غير المرغوبة." وغلبني سيلٌ من الغضب. وتساءلتُ، من فعل هذا بنا؟ أيعلم والدها الملك؟ هل يعلم زاكوني؟ ماذا قال لهم الرسول من هاستينابورا؟ كم قدّم من الذهب؟
كانت أميرتي تتفحص وجهها في المرآة. "هل تعتقدين أنه سيجدني جميلة؟" سألتني بقلق وواصلت "لقد أصبحت نحيفة جدًا في هذا السفر." قلت بجدية: لا توجد مرآة في عينيه. بدت كلماتي غريبة في أذني إذ ليس من عادتي أن أتكلم بهذه الطريقة المُتَكلَّفة. ولكنها، طبعا، لم تفهم وتابعت: "هناك بقعة على خدي، ويبدو أن بشرتي فقدت لونها". كان (أخوها) "زاكوني" يقف عند المدخل وقد سمعني أتكلم. وكانت ابتسامة بهيجة تلعب بوجهه، وكأنه ينتظر لقاءً ممتعًا. "ألا تفهمين يا أختي؟" قال بلطف، بلطف شديد. "زوجك المستقبلي أعمى." هي سقطت على الأرض مغمى عليها. واصل "زاكوني" الابتسام، وقال، وكأنه يعزّيها: "نحن جميعًا عُميان". دعي الأطباء، وحضرت جميع عائلتها الجديدة أمامها. لم تكن قادرة على الحركة ولا الكلام، رغم أنها كانت ترفرف جفنيها وترتشف الماء إذا وُضع على فمها.
لقد حضر الجميع من بشما، وفيدورا، وساتيافاتي، وكَنائِنُ أبنائها الأرامل وكان القلق والفزع بارزين على وجوههم. قمت بتمشيط شعرها وهي كانت مستلقية على السرير، فلمستْ ذراعي بلطف تقديرا لما فعلت. في تلك اللحظة دخل الملك الأعمى دريتاراشترا الذي ستتزوج منه. كان رجلاً وسيمًا في تلك الأيام، طويلًا وحسن البنية. وقد مشى بثقة ملك. لكنه تعثر وارتطمت ساقه بسريرها، فاستدعى الأمر أن يرشد رجل البلاط الذي كان يرافقه خطيبَها إلى جانبها. وحدثها بطريقته الملكية قائلا: "يسعدنا وجودك في هاستينابورا. من البديهي أن الرحلة قد أرهقتك." أبقت قنداري عينيها مغمضتين بإحكام. أصبح وجهها قناعًا. لم تعط أي رد. خرج الزوار على رؤوس أصابعهم. عندما ذهبوا، فتحت عينيها ونظرت إليّ بجدية. قالت "لا مهرب ولا مفر". إذا لم يستطع رؤية وجهي، فسأمتنع أيضًا عن رؤيته. فقلت: لا يمكنك أن تعيشي حياتك وعيناك مغمضتان، يا أيتها الأميرة! حاولت أن تنظر بتحدّ ولكن كانت عيناها تعبران عن حزن لا نهائي. قالت: "سأغطي عيني بالضمادات". "يجب عليك أن تساعديني، يا زارا". كنت غير قادرة على التحدث. لكنها كانت جادة ومليئة بالغرض الطفولي، وأصرّت: "يجب أن تحضر لي ضمادات". سوف أتخلى عن مَوهِبَة البصر. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمكّنني من العيش معه.
أحيانا، نحن الخدم نطَيّبُ خاطِرَ سيدنا، مراعاة لنزوة طارئة في اللحظة الخاصة ونحن نعلم جيدًا أن ذلك سيمرّ. فقلت: إذا كنتِ ترغبين في ذلك، يا أميرتي، وبدأتُ في تمشيط شعرها لتهدئتها. قالت بلطف: "هل تعتقدين أن هذه نزوة يا زارا، لكن لا، هذا قسم." لم أر ابتسامتها قط بعد ذلك. هناك جراح لا يمكن الْتئامها بالشجاعة فحسب، بل إنها تحتاج إلى الغضب والدموع وعزاء المحبة. ولكن ماذا يمكن أن أقول لها؟ كنت خادمة. ذهبت لشراء ضمادات لها حسب تعليماتها.
*
تم تضميد عينيها بأنعم وأخف وأبيض حرير يمكن أن أجده. لففتُه حول عينيها ثلاث مرات، وأغمضت عينيها إلى الأبد. كنا نغير الضمادات ليل كل قمر مكتمل في الخارج. وكانت تُبقي عينيها مغمضتين. فكنت أتساءل في نفسي ألم ترغب أبدًا في فتحها؟
لقد تولدت علاقة جيدة بينهما كزوجين، ورزقا بأطفال، فمن الواضح أن هذا العمل (أي التضميد) حظي بالنجاح. كان لهما مئة وواحد من الأولاد، منهم بنت ومائة ابن. طبعا، كانت تحب دوريودانا أكثر من أحد وهو كان يعلم ذلك. كانت تهمس: "ابني البكر"، وامتلأت عيناى بالدموع هنا الآن إذ أتذكر صوتها عندما قالت ذلك. كانت تتوق لرؤيته. كانت تداعب وجهه مرارًا وتكرارًا عندما كان رضيعًا. والجدير بالذكر هو أن دوريودانا و دوسالا ودوسانا كانوا من الأولاد المفضلين لديها.
كنت أقوم بتمشيط شعر ابنتها دوسالا كل ليلة كما كنت أقوم بدلكه وتمليسه وسحبه وتزييته أسبوعيًا، وكنت أغسله برغوة لطيفة من حبات الريثا (صابون الجوز Soapnut)، لكنه ظل فاترا ولم يكن فيه حياة ولا جسد. كانت أميرة ذات مظهر عادي، هذا هو مخ الحديث. على عكس دروبادي، فهي الأميرة التي تزوجت من أبناء كونتي الخمسة. أحيانًا، كنت أمشط شعرها أيضًا في الأيام الخوالي، والذي كان يبدو كما لو أن شخصًا ما قد زيّت خطّا من الصاعقة واحتواها في سحابة. وهي كانت فخورة بشعرها وتلعب به للتأثير، رغم أنها كانت تعلم أن ذلك يدفع الرجال حولها في جنون. ولكنها كانت تفعل كذلك. لست متأكدًا مما إذا كنت أحبها ولكني أعجبت بها. نعم، أعجبت بها. علمّتُها كيف يمكنها أن تجعل ضفيرين لشعرها، وتربطه في لفات متقنة، وطرقا أخرى بهذا الشأن.
عندما كان الباندفا في المنفى، وعندما - دعونا نواجه الأمر- خدع دوريودانا وإخوتُه أبناءَ عمومتهم، عندما كان أبناء كونتي يتجولون في الأرض مثل المتسولين على الرغم من أنهم ولدوا من الملوك والدم الملكي، كانت دروباتي تعمل كمصففة شعر في بلاط فيراتا للملكة سوداشنا. لم يتركها الرجال بمفردها هناك أيضًا، تودد شقيق سوداشنا إلى كيشاكا، فقتله بهيما. هذا هو شأن بهيما.
إنها فعلت شيئا للرجال. كان هناك شيء متحد بشأن جمالها الذي دفعهم إلى الجنون. كان زوج دوسالا جايادراتا شخصا آخر. ألا تستطيع أن ترى ما كانت تفعل بهم؟ هل كانت عمياء؟ في ذلك اليوم، في البلاط، عندما خسرها زوجها يوديشترا بالمقامرة، وسحبها دوسانا بشعرها الداكن الطويل، شعرها الذي تم تطهيره بالمياه المقدسة خلال راجا سويا ياغيا ، وحاول خلع ملابسها. أغلق فيدورا عينيه في رعب، واختار ألا يرى ما حدث.
كانت دروبادي ذهبت لأجل حمامها الطقسي بعد حيضها في ذلك اليوم. كان شعرها رطبًا، ولذلك كان يتُرك فضفاضا، ولم يتم ترتيبه على شكل ضفيرة مصففة مُحكَمة تفضّلها عادةً، وكانت تعتقد أن هذه الموضة تعطيها طولًا، لكنها كانت مخطئة، فقد جعلها تبدو طويلة جدًا، ولافِتا لِلنّظَر لأي امرأة، حتى بالنسبة للمرأة الملكية.
قررت الملكة قنداري أن تصبح عمياء منذ زمن طويل. فوُجئَ بعماها جميع أفراد عائلتها في اليوم نفسه، وكان ذلك وباء سريعا. لم أتحدث معها عن الحادث أبدًا، ولم يكن ذلك ملائما لي، لكننا كنا نتهامس عن ذلك في المطابخ والحمامات. لقد خجلنا جميعًا من ذلك -ملك أعمى وملكة اختارت أن تكون عمياء، وأبناؤهم الذين كانت تعطي قوتهم عَضُدا للضعفاء.
قيل لي إنها حاولت نزع الضمادات ذات مرة عندما اِعْتَزَل دريتارشترا وقنداري وكونتي معًا في الجبال. لقد فقد الملك العجوز وملكته مائة من الأبناء، وفقدت كونتي، الملكة الأم الآن، كاونتيا، أحب أطفالها. من الأفضل أن تكون متسولًا فقيرًا بقُمّل في شعرك من أن تعيش في قصور وتصاب بمثل هذا الحزن. لكنهم تعافَوا واستعادوا قواهم في الجبال. إنهم كانوا لا يمتلكون الخدم، رغم أنهم كانوا، بالطبع، حاضرين في شكل غير مرئي - فقد كان أبناء كونتي الملكيون وزوجات أبنائها ضمنوا ذلك. كان الكبار يأكلون الفاكهة من الأشجار ويستنشقون نسيم الجبل، وبدت أحزانهم بعيدة لبعض اللحظات.
أزالت قنداري الضمادات عندما ذهبوا في نزهة وذكّرتها الرائحة ُالحادةُ لإبر الصنوبر الملكةَ بمنزلنا في الجبال قبل أن يتم إحضارها هنا كزوجة دريتاراشترا. قالت بحزن وبصوتها اللطيف مع اللوم فيه: "كنت أتمنى أن أرى أشجار الصنوبر''. فقد دريتاراشترا أعصابه وغضب عليها، ثم قال: هل منعتُك يا تُرَى؟ هل طلبتُ منك أن تربط عينيك؟ هل كان ذلك هي رغبتي؟ هي أعلنت: فعلته لأجلك! وكان رده، "الملكة النبيلة قنداري!". حاول كونتي تهدئتهم، لكنهم كانوا يتشاجرون مثل زوج من الأطفال. أطلقت قنداري آخر طلقة بقولها: "هل أخبر والدك الملك والدي الملك سوبالا بأنك أعمى؟" وكان دريتاراشترا قد فقد السيطرة تمامًا وقال: "لقد جعلتني أعمى مرتين، يا ملكتي! هل فكرت يومًا ما في أن تسأليني كيف شعرت عندما ربطتِ عينيك بقطعة قماش تافِهة من الحرير؟ كان من المناسب أن تكوني مُنقذتي! وكان بإمكاني النظر إلى الحياة من خلال عيونك. ولكن لا! لجأتِ إلى أن تجعلي جُبنك فضيلة.
كانت كونتي عملية وذات نوايا حسنة دائمًا، قد أزالت الضمادات عن عيونها. أذهل ضوء الشمس عيون ملكتي، ولكنها، التي فقدت عادة الرؤية، لم تستطع أن ترى حولها سوى ضوء يُعمي. قالت قنداري لزوجها بجدية ولباقة: "أنا أيضًا أصبحت عمياء مرتين يا سيدي.
قيل لي بأنهم لم يلجؤوا إلى النزاع بعد ذلك قط، بل تراجعوا إلى مجاملتهم المعتادة. لم يكن الأمر بأنه لا يحب الواحد الآخر، بل كانا مرآة لأخطائهما ومخاوفهما. كل من قندهارا وقُم وقابول بعيدون الآن. بالرغم من ذلك ما زلتُ مخلصة لملكتي قنداري واحتفظتُ بإحدى عشرة قارورة من مسحوق لاك الذهبي طوال حياتي، ولكن ليس لدي أحد استخدم عليه هذه الأشياء.
أعلن الكهنة، في خطب جنازة الملكتين، "الوقت لا يترك شيئًا حقيقيًا". أما دريتاراشترا فلا يهمني أن أتذكره. عندما اشتعلتِ النيران، وهسهستِ الأغصان وتذكرتُ وقت الأوراق الخضراء، علمتُ أن الكهنة كانوا مخطئين فيما يقولون. الموت مُحَقَّق دائما، ومثله في ذلك مثل الحرب والحب...؟
۞۞۞