الجنون
(القصة الفائزة بالجائزة الثالثة بالمناصفة في الفئة الثانية، فئة الماجستير، في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
محمد رفيف *
ما خرج أحمد خليل من المكتب حتى رن الهاتف في جيبه...كانت تلك مكالمة أولى بعد تحويله نغمة رنين صباح اليوم...وما لبث أن تذكر أنه لم يتلق اليوم مكالمة أخرى حتى الساعة رغم أنه تعود على أن يتلقى غير قليل من المكالمات خلال الدوام الرسمي. وأخذ المحمول وتكلم مع الآخر وقتا قصيرا حتى ساوره القلق واسوّد وجهه بالحزن.
- نعم، أخرج الآن على الفور...إن شاء الله سأصل هناك في العاشرة.
كان هو شاب كشميري يعمل مديراً عاماً في شركة الاتصالات بمدينة مومباي منذ سنتين. أي بعد أن تخرج من جامعة دلهي حاصلا على شهادة ماجستير في إدارة الأعمال. ولم يمض إلا قليل أصبح جزءا لا يتجزأ عن نشاطات الشركة من إبرام العقود والصفقات الجديدة وشؤونها الدبلوماسية وغيرها، حتى لا يتم فيها أمر إلا وله يد فيه.
ثم ولو كنت نظرت إليه لوجدته ظاهر النشاط وطويل الجسد وحسن المنظر ونقّي اللون لم يتخدد، يرسم دائما على وجهه البياض تبسما لّينا يجعله أكثر بياضا من القمر في ليلة البدر. وكان عذب الصوت، حازم اللهجة، معتدل الحديث. وأضف إلى ذلك أنه الأمل الوحيد لأسرته الصغيرة التي تسكن في ضواحي قرية 'كلغام' من كشمير، بل كان الأمل لجميع أهل تلك القرية الصغيرة. وهم الذين كانوا يمّدون بأيديهم المساندة نحوه كلما عرضت أمامه العقبات في مرحلته الدراسة كلها خاصة بعد فراق أبيه في معركة كارجيل.
وكان أبوه ضابطاً باسلاً في الجيش الهندي، ولم يره إلا كذلك منذ أن بلغ سّن الرشد. وكان من عرفه أن يفدي نفسه كلها في سبيل حماية الوطن عن المخاطر الخارجية وتسلل الإرهابّيين، لأنه يعلم أن قطرات الدماء التي يبذلها في سبيل الدفاع عن الوطن إنما هي المداد الأحمر الذي تسجل له به في صفحات تاريخهم آيات المجد والفخار. وأن الأشلاء التي ينثرونها في تربة وطنهم ثم يسقونها من دمائهم إنما هي البذور الطيبة التي تنبت لبلادهم المستقبل الحر الشريف.... وبذلك لم يرث عن أبيه إلا صفات الشجاعة والعزيمة والصبر واحتمال المكاره في سبيل خدمة الوطن والأمة..... إن وفاة والده الذي كان يحبه حبا جّما تركت في نفسه أثرا من الحزن لا يبلى، وملأت فضاء حياته هما ونكدا...
وكنت تراه الآن قائما في طابور المسافرين في مبنى ركّاب مطار مومباي حاملا حقيبته وممسكا بجواز السفر والتذكرة في إحدى يديه. وتظهر على وجهه مخايل الحيرة والخشية في الوقت ذاته. ولا يدري بالتحديد لماذا يغادر مومباي ويذهب إلى بلده بهذه السرعة، إلا أنه يعرف مجرد هجوم إرهابي كبير في تاريخ الهند شهدته قريته مساء اليوم. وأسفرت الحادثة عن مقتل الخمسين من الظابطين والقروّيين وإصابة المئات الآخرين.... منذ أن قرع مسامعه هذا الخبر الفظيع أخذ يصطاد نفسه خلجاته ويفعل به البؤس والشقاء الأفاعيل.
ودخل إلى الطائرة وهو منغمس في أفكاره، وقعد في مقعد بالقرب من الباب حتى أن أفاقته فتاة من غيبوبته وهداه إلى مقعده الصحيح. ولكن لم يستقر له القعود.... ومن الصعوبة جدا أن يثاب إلى نفسه بأقصر وقت.... ولا تزال أفكاره تعصف به حينا بعد حين. تارة تصعد به إلى قمة الجبال وتارة تغوص به إلى قعر البحار...وفي لحظة ما أوغل في ذاكرته أمه الحنون وأختاه اللتان كانتا تلزمانه من ظله في أيام الإجازة. أهن أحياء أم أموات...؟ وما حالة القرية وأهلها...؟ القرية التي نشأ في حجرها وتربة التي عّلمته دروس الحياة وأهلها الذين أوصلوه إلى ما وصل...
وبينما هو يقمع ذكرياته رويدا رويدا اهتدى إلى هاتفه المحمول الذي في جيبه....لم لا أتصل بعمر مختار رئيس القرية....؟ إنه أخبره بالهجوم وطلب منه الرجوع بأسرع وقت ممكن، ولم يزد عن ذلك كثيرا ولا قليلا... أخذ المحمول من جيبه وحاول أن يتصل به، ولكن لم يستطع له أن يتم الاتصال به. لعله ينقل إليه خبرا يدفعه إلى حالة يجمد له فيها الأنفاس ويغط في غيبوبة عميقة، ولا يمكن له الانتشال منه إلا بتربيت أمه الرقيق...ومن ثم لعله لم يفق من الإغماء أبدا.... إن كانت أمه فارقته....
ولم يعرف ما يدور حوله حتى أن هبطت الطائرة في مطار شيخ العالم بشرينغر. ولم يلبث أن اتصل بسيارة الأجرة، وباشر إلى بيته وهو خلا إلى نفسه وأسرته...وقد تقلصت مسافات العالم أمامه وصارطوله وعرضه طول قريته وعرضها... نزل على الزقاق المؤدي إلى بيته. فحياه هواء يحمل رائحة الموت...وطفق يمشي نحو البيت بقلب ثقيل في ظلام ساكن، كأن الظلام ميت من الأموات...لا روح له ولا نفس...وكلما يقترب من البيت يرى الظلام ينهزم أمام جيش الأنوار.
وفجأة تراءى أمامه حشد من الناس...ولم ير ذلك من قبل قط. ولما هّم أن يدخل إلى فناء البيت أسرع إليه الرجلان من طليعة الناس، فبدا له أن أحدهما عمر مختار ولكن لم يكترث ذاك ولم ينبس شيئا...فظن أن الناس كله يشخصون نحوه الأبصار. وذهبا به إلى غرفة فيها ثلاثة نعوش وقد فرش عليها العلم الهندي. ويقوم حولها بعض من الظابطين.... ويتناول فيها أنين رقيق هزيل....
ولم يمض غير قليل حتى جمدت أنفاسه، وكان أن يغمى عليه.... ولم يشمر أن يراهن لآخر المرة.... ولو رآهن هكذا ليكونن أمواتا وإلا ليستمررن أحياء في فؤاده الذي شغف بحبهن ما دام فيه دبيب الحياة.... فتم أداء المراسيم مثل ما تكون المراسيم في قريته مع حراسة الشرف الرسمية من قبل الجيش الهندي وكأنه في حلم.....
وكنت تراه الآن هائما على وجهه في ضواحي مدينة دلهي وشوارعها.... وقد ساد عليه الخمر والمخدرات، وغاب عنه أمارة النشاط والشجاعة واستولى عليه الضعف والكآبة.... أحيانا يمشي في الطريق وأخرى يستلقي عليها. لا يدري إلى أين يروح، لا ملجأ له يلجأ إليه ولا مأوى له يأوي إليه.... ولمن يعيد إليه أيامه الغامرة....؟ هل لله أن يبعث أمه مرة أخرى....؟
**********
* طالب الماجستير، قسم اللغة العربية، جامعة كاليكوت، كيرالا، الهند.