ستّون عاما مضت، ولم تُمح من ذاكرتي اللّحظة الّتي حملني فيها والدي على ظهره متسلّلا وسط تلك الحشود الكبيرة من المحتفين بلحظة النّصر.ستّون عاما، وذاكرتي تستحضر المشهد الّذي تراخى فيه جسد أبي، وسقط برصاصة لا فرق بين أنّها مقصودة أو طائشة، لحظة انفصلت فيها يدي عن يده، وتحوّل الاحتفاء بالاستقلال لمأتم.
بدت تلك الأصبوحة كما لو أنّها يوم عيد. الوضع فيها لا يبوئُ بخيبات كتلك التي فاجأتنا في الثّامن من ماي 1945، لا تشبه أيّ مشهد من مشاهد باقي الاحتشادات الشّعبية، الّتي تجسّدت على ثرى أرض الجزائر الطيّبة طيلة قرن واثني وثلاثين عامًا.كانت الأصبوحة أشبه بولادة عسيرة لطفل تمخّض بعد عقم دام سنوات طوال.
الحرّية تؤخذ ولا تعطى، هذا ما انغرس في أذهان الجزائريين مذ أوّل وطأة للعدوّ. سمّاني أبي نوفمبر ذاك أنّي وُلدت في اللّيلة التي تلت اندلاع الثّورة التحريرية.ميلادي كان في فترة عظيمة كما كان متداولا، بيد أنّي لا أذكر سوى أحداث قليلة من طفولتي البائسة.
صبيحة اختتاني،التمّ ثلّة من الرّجال بغرفة جدّي، والتفّ حولي الجميع.توسّطهم الطّبيب،الّذي يعرف في قبائلنا بـ"الحجّام"؛ وأبي الّذي ما لبثت أن تنتهي العمليّة ،حتّى أذرف دموعًا بدت كهمار المطر.
احتفل الجميع بختان الطّفل نوفمبر، كما احتفوا بميلاده تمامًا، باستثناء شخصٍ واحد، لم يدرك حتّى عشاء الميلاد.سمعت النّسوة يترحّمن عليها ويصفنني بالمسكين، الوحيد، اليتيم. أمّي، يوم عرفتُ ما معنى أن يكون لك أمّ، أحسست أنّي شخص فاقد للحياة، وأنّ لا جدوى من أن أعيش، لكنّ أبي أقنعني بعد مشقّة ، وأكّد لي أنّ أمّي في الجنّة، و لي أمّا ما فتئت أن تموت؛اسمها الجزائر.
كانت ليلة الختان تلك صاخبة، فما يزال صوت بعض النّسوة يتردّد في مسمعي، وهنّ يستخدمن ملاعقا للتّطبيل ويغنّين، بينما انهمكن أخريات بتحضير أطباق من الكسكسي، وزّعها والدي على أفراد كتيبته بهضبة تايرت[1].
بعد سنة سُجّلت بزاوية الشيّخ محفوظ، قصد تلقيني للدّروس الأولى في لغتي الأمّ، وتحفيظي لما تيسّر من كلام الله.كنت أرتاد الزاوية بشكل يومي، وأتكبّد عناء التنقّل، فأذرع طريقا وعرا وشرسا شراسة أولئك الجنود،الّذين اعترضوا طريقي مليّا.لم تسترجع ذاكرتي من كلامهم سوى كلمة"فلاقة"، فقد كانت أقرب إلى لهجتنا العامّية.يرفض أبي مرارا شرح هذا المصطلح، ويتملّص أيضا من أسئلتي الفضولية.
نوفمبر النّجيب، نوفمبر الشّجاع، نوفمبر الذكيّ، نوفمبر القدوة.هذا ما كان يردّده شيخنا، مادحا إيّاي، بينما ألمس الغيرة في أعين زملائي.لم أدرك أهمّية ذلك المدح طوال الوقت، حتّى لمّا أكون ساكنا.
اسمي نوفمبر؛ وماذا بعد!
لمّا بلغت السّادسة، نضج تفكيري بعض الشّيء، خاصّة بعد أن التحقت بالابتدائية القديمة[2] التي تقع عند مدخل بني بوسعيد .كان نظام المدرسة صباحيا، لذلك كنت أقضي المساء قريبا من أبي،لا أفارقه وأشاركه في اجتماعاته السّرّية أيضا مع كتيبته، و غالبا ما يقلّدني مهمّة إيصال الرّسائل الشّفوية للمجاهدين في حال غاب هو عن الميدان.
كانت الثّورة في آخر أيّامها، وكلّ ما جرى في تلك الأيّام بدا ممهّدا لنصر كبير، تستعيد فيه الجزائر سيادتها، ويندثر كلّ ما له علاقة بالاستعمار.كان أبي أكبر عدوّ للاستعمار في الجنوب الغربي للجزائر. عرف باسمه الثّوري"سي لكبير" كناية عن انتصاراته الكبرى رفقة كتيبته في الكثير من المعارك والوقائع.صمد جبل عصفور ببني بوسعيد في كل هاته المواجهات، ولم يملّ من أقدام المجاهدين ودمائهم الطّاهرة؛ واقعة المرقي، تيفوسار، سهب الطويل، الصليب، لكتاوت، فوغال، تجداين، طيطاوين، مزرعة الرافيل، ذراع الزبوج، بوعجاجة، بوسدرة..
انطلقت احتفالات الشّعب الجزائري المنتصر في كلّ ربوع وأنحاء الوطن، واتّجه سكّان بني بوسعيد نحو جبل عصفور عبر الطريق الوطني رقم 99،مصطفّين اصطفاف الجنود، شيوخا، رجالا، نساء، وأطفالا، وألسنتهم لا تتوقّف عن الإنشاد للوطن وترديد:
<<تحيا الجزائر مستقلّة>>.
في الوهلة الأولى طوّقني أبي بذراعه، مفتخرا "نوفمبر، نوفمبر.."،ثمّ حملني على ظهره رغم أنّي بدوت أكبر من ذلك.
بعد مرور ساعة من السّير، وصلنا للمكان الّذي وقعت فيه معركة طيطاوين، ووجدنا بقايا الدبّابة التي أسقطتها كتائبنا.
ارتسمت لوحة أعلى جبل عصفور.كنّا جسدًا واحدا يحتفل باستعادة المجد.استمرّ الجميع في التّكبير والإنشاد وترديد مختلف الشّعارات، حتّى سُمع صوت إطلاق النّار، ولم يعرف المصوّب حتّى أنا الّذي كنتُ بالقرب من مكان الطّلقة.تهاوى أبي ببطء كأنّه آخر ورقة خريف.
تحوّل الاحتفال إلى جنازة، فكان أبي آخر شّهداء الثّورة التحريرية. مات أبي وهو يردّد"أموت أنا ولا يموت نوفمبر".
[1] تقع في الطريق المؤدي إلى جبل عصفور بني بوسعيد- تلمسان،هي وجهة سياحية جميلة حاليا وبني بها سد سنة 2007،يسمى سد تايرت.
[2] من مخلفات الاستعمار الفرنسي وهي أول ابتدائية، تم توسيعها في الألفية الثانية،تسمى حاليا بابتدائية الشهيد قرقابو ميلود.