وجهٌ ماطرٌ جدّاًً قليلاً
Vol No 1, Issue No 1- مجلة قطوف الهند
January 18, 2022
877
وجهٌ ماطرٌ جدّاًً قليلاً
مسرّحية من خمسة مشاهد
بقلم: سناء الشّعلان (بنت نعيمة) / الأردن
رؤية خشبة المسّرح *
خشبة المسرح فارغة من أيّ شيء خلا قطعة قماش متنوعة الألوان، مفروشة على الأرض في منتصف الخشبة بعبثيةٍ ودون ترتيبٍ، وعليها صندوق خشبيّ قديم. وفي القرب منها طاولة صغيرة جرداء، لا غطاء عليها، أو زهريّة فوقها، وإلى يسار الطاولة كرسي خشبي هزّاز.
الخشبة خافتة الإضاءة حدّ الإظلام، وبقعة ضوئية خليط بين الأحمر والأزرق مسلطة على قطعة القماش هي كلُّ ما في الخشبة من إضاءة. وموسيقى قلقة ترتفع وتخبو دون انتظام، وصوت رعد، ووهج برق يملأ فضاء المسرح كاملاً.
وصوت يرّدد في سماء المسرح:
"لو كان حبّي مطراً
أغرقتُ هذا الكونَ بالأمطار. . . "
* رؤية مقترحة على المخرج.
رؤية الشّخصيات
وممثّل أو ممثلة (لا يهمّ جنس الممثل في هذه المسرّحية)، يلبس زيّاً خاصا نصفه الأيمن طوليّاً لونه أبيض، ويبدو نسائي تماماً، ونصفه الأيسر طوليّاً لونه أسود، ويبدو ذكوري تماماً، ويلبس قناعاً لمّاعاً يخفي ملامحه/ملامحها.
أيّ أنّ هذا الممثل أو الممثلة سيلعب دور الرّجل والمرأة في آن.
وعندما يكون الحوار لـ"هو" يتحدّث الممثل/الممثلة بلغة الرّجل ونبرته وصوته، وعندما يكون الحوار لـ "هي" يتحدّث الممثل/الممثلة بلغة المرأة ونبرتها وصوتها.
المشهد الأوّل
الموسيقى تخبو، صوت الرّعد يرتفع، ووهج البرق يومض بشدّة.
صــمــت
ثم ظــلام
بقعة ضوء تتسلّط على جسد الممثّل المسجّى على الأرض، يبدأ يتململ بحركاتٍ ميكانيكيةٍ رتيبةٍ مرتعدةٍ من صوت البرق، ووهج الرّعد.
هي(بضجرٍ): اللّعنة لقد تكسّرت عظامي من هذا الاحتضان المنهك، تبّاً لك فأنت السّبب في كلّ معاناتي.
- هو (بضجرٍ أكبر وتأففٍ نزقٍ): أليس عنادك هو السّبب في كلّ هذه المعاناة؟
- هي (بدهشةٍ ورفضٍ): أنا السّبب؟ ها قد عدنا من جديد إلى جنونك، هيّا قل إنّ كلّ مآسيك بسببي، وقل كذلك إنّك لا تفتأ تحتمل كلّ نزواتي، وقل. . .
- هو (مقاطعاً بعصبيةٍ): واحتمل كذلك عصبتيك المفرطة، وحساسيتك المرضيّة، ووحامك الطّويل، وكآبة نفاسك، وشره فترة إرضاعك، كما أحتمل عصبية زيادة وزنك، ووزر تراجع إشراق بشرتك، وأحتمل أيضاً أنّني السّبب في كلّ أخطائك الطائشة، وأزماتك العائليّة، ومشاحناتك مع الجيران والزملاء في العمل. ومن دون شك عليّ ّ أن أحتمل دون مناص عبء مللكِ الوجودي، وضيقك الأزلي من تغيّر الطقس ومن ثم أموت كمداً يا امرأة هي عقابي على خطيئتي السّماويّة.
- هي (بسخريةٍ): وأيّ خطيئة تعني؟
- هو (بلامبالاة): بالتأكيد خطيئة حبيّ لك.
- هي(بتشفٍ): ولماذا لا تقول خطيئة طمعك وجحودك؟ أردتَ أن تشاركَ الخالق في علاه بالخلود. فانظر إلى أين وصلنا؟ هذا كلّه بسبب مرضك القاهر الذي اسمه الخلود والقوة والنفوذ. ألم أقل لك إنّك سبب كلّ معاناتي؟
- هو (بقرفٍ): وانظري إلى أين وصلنا. نحن الآن في الأرض اللعينة. نحن هنا بسبب. . .
- هي (مقاطعة): بسبب طمعك.
- هو (متأتأً): بل بسبب جسدك الجميل!!
- هي(بدهشةٍ): بسبب جسدي الجميل؟! وما علاقة جسدي بما نحن فيه الآن؟
- هو(بتخبّطٍ): لولا جسدك الجميل لما كنّا الآن عراة في ليلة ماطرة دون وجهين.
- هي (تتفقّد جسدها بحركة سريعة من يديها): ولكنّنا لسنا عراة!!
- هو(مرتبكاً): إذن لولا جسدك الجميل لما كنّا عراة في ليلة ماطرة دون وجهين.
- هي (بتفكّرٍ تتلوه نبرة سخرية): تبدو أكثر جنوناً بلا وجه، وفي ليلة غير ماطرة.
- هو(بعنادٍ): بل هي ليلة ماطرة.
- هي(بإصرارٍ): هي ليلة غير ماطرة.
- هو(باستسلامٍ): قد لا تكون ماطرة، ولكنّني ماطر بشدّة.
- هي (بنبرةٍ منكسرةٍ): وأنا ماطرة كذلك، ماطرة حدّ الغرق ماطرة حدّ الفيضان أنا شآبيب لعنة من عند ربّة عانس وحيدة.
- هو(باحتياجٍ): أحتاج إليكٍ.
- هي(بنفورٍ): الماطرون يحتاجون فقط إلى معاطف واقية من مطرهم الدّاخلي.
- هو (باحتياجٍ أكبرٍ): أحتاجُ إليّ.
- هي: الماطرون في حاجة إلى وجوه يهبونها للمطر.
- هو: ولكنّنا دون وجهين.
- هي (تضحك بهستيريّةٍ): ولذلك نشعر بالبرد؛ لا يجوز أن نكون ماطرين دون وجهين، فالوجوه هي من تغمرنا بالدفء.
- هو: مرّة كان عندي وجه لعقود طويلة، بل لقرون ممتدّة بلا نهاية، وعندها كنتُ أشعر بدفءٍ غامرٍ.
- هي(باستهزاءٍ): ولكن لابدّ أن تخلع هذا الوجه من وقت لآخر بغية غسله وتجفيفه تحت الشّمس كي لا يصيبه عطب الحقيقة.
- هو(بحماسٍ): هذا ما كنتُ أفعله دائماً، إلى أن فقدتُ وجهي في حادث ما عدت أذكر تفاصيله ومن يومها أصبحتُ ماطراً دون توقّف.
- هي (بلا مبالاةٍ): أمّا أنا فقد أصبحت ماطرة بقرارٍ القبيلة؛ قالوا عندها إنّ وجوه النّساء أكثر فتنة من أجسادهنّ؛ لأنّها تقول الحقيقة حيث يجب أن تقتلها. ممتع أن أكون ماطرة ولكنني أشعر ببرد دائم يذكّرني بضرورة أن أملك وجهاً ولولا ليلة قبل أن أموت.
- هو(بقلقٍ): البارحة نموت، علينا أن نملك وجهين كي نشعر بالدفء في هذه الليلة الباردة.
- هي (تضحك بغلٍّ): كم مرّة قلت لك إنّنا لا نملك غير هذين القناعين البلاستيكيين اللذين نلبسهما طوال الوقت؛ لقد أضعنا وجهينا منذ زمن طويل.
- هو (باحتجاجٍ): أنا لم أضعه، ولكنّه مات في حادثٍ أليم، أنتِ من أضاعت وجهها!
- هي(بهلعٍ): أنا لم أضع وجهي بل القبيلة من صادرته!
- هو(مكذّباً): عن أيّ قبيلة تتكلّمين؟
- هي(بخوفٍ): أتحدّث عن قبيلة المطر.
- هو(باستغرابٍ): وهل هناك قبيلة للمطر؟!
- هي(بثقةٍ): ليس هناك قبيلة إلاّ للمطر.
- هو (وقد اقترب من الصّندوق الخشبيّ، ويكاد يفتحه): وهل تعرفين أين تخبّأ قبيلة المطر وجوه النّساء الماطرات والرّجال الناجين من حوادث أليمة؟
- هي (بفضول وقد تعلّقتْ بيديه): أين؟!
- هو(بهمسٍ): هنا في هذا الصّندوق.
- هي(بحماسٍ): إذن لنفتح الصّندوق، ونستردّ وجوهنا لقد طال اشتياقي لوجهي أشعر ببرد عظيم أحتاج إلى وجهي.
- هو (بضحكٍ تعلوه شهقات منفعلة): سنكون أوّل ماطرين يستردّان وجهيهما!
- هي (وهي تصفّق وتقفز في مكانها): مرحى لمرحى لي، أخيراً سنصبح ماطرين بوجهين بدل هذين القناعين القبيحين اللذين نعيش بهما منذ زمن طويلٍ بقوة الجّبر والقسر.
- هو (يعالج فتح الصّندوق): إذن استعدّي لاسترداد وجهكِ.
يفتح (هو) الصّندوق، يشهق ثم يصمت وتشهق (هي)وتصمت.
- هي (بصدمةٍ شديدةٍ): مستحيل!! يبدو أنّنا لسنا أوّل ماطرين يستردّان وجهيهما!!
- هو(مشدوهاً): كلانا سيكون آخر ماطر يستردّ وجهه. انظري ليس في الصّندوق إلاّ وجهاً واحداً.
- هي(بفضولٍ): أهو وجه امرأة أم وجه رجلٍ؟
- هو (يقلّب الوجوه بين يديه): لن تصدّقي ما هو هنا!!
- هي(بخوفٍ): ماذا هناك؟
- هو(بسخريةٍ): هذا وجه بملامح خنثى لاهي ملامح رجل، ولا هي ملامح أنثى يصلح أن يكون وجهاً لرجلٍ أو لامرأة!
- هي(برعبٍ): أتقصد أن تقول إنّه وجه واحد يصلح لاثنين ماطرين في ليلة باردة؟!
- هو(بأسىً): نعم، هو وجه واحد يصلح لاثنين ماطرين في ليلة باردة.
- هي (وقد تكوّمت أرضاً منهارةً): أتقصد أنّ على أحدنا أن يختار التّنازل عن الوجه للآخر؟
- هو(بهدوءٍ): أو عليه أن يختار أن يستأثر بالوجه دون الآخر!
- هي(بحزنٍ): ولكن ما جدوى أن يكون أحدنا بوجه والآخر بقناع؟!
- هو (بنبرةٍ قاطنةٍ): لعلّ هذه هي حكمة المطر؛ أن يكون أحدنا بوجه والآخر بقناع.
- هي(بحقدٍ): بل هي حكمة القبيلة التي تنزع الوجوه دون رحمها، وتهبها لمن تشاء وتحرمها على من تشاء.
- هو (كأنّه يحدّث نفسه): هل عليّ أن أؤثرك على نفسي بهذا الوجه؟
- هي (كأنّها تحدّث نفسها): هل عليّ أن أؤثرك على نفسي بهذا الوجه؟
- هو(بانفعالٍ): هل ستفعلين ذلك من أجلي؟
- هي(بقلقٍ): بل هل ستفعل ذلك من أجلي؟
- هو(بحزمٍ): لا يمكن لرجل ماطر أن يتنازل عن وجه في ليلة ماطرة.
- هي (بعد صمتٍ قصيرٍ): الحلّ إذن أن نتناوب على هذا الوجه، مرّة تلبسه أنت، وتخلع القناع ومرة ألبسه أنا وأخلع القناع.
- هو (فرحاً بهذا الاقتراحِ): فكرة عظيمة. ولكن من له حق ارتداء الوجه أوّلاً؟
- هي(بثقةٍ): طبعاً أنا من يحقّ لي أن ألبسه أوّلاً.
- هو(بانزعاجٍ): ولكنّني أنا من وجده، وأنا الأقوى، وأنا الرجل ولذلك عليّ أن أرتديه أوّلاً.
- هي (بدلالٍ أنثويٍ لئيمٍ): ولأنّك الرجل ولأنك الأقوى ولأنك أول من وجده عليك أن تسمح لي بأن أرتديه أوّلاً.
- هو(بقلقٍ): وماذا لو أنّك رفضت أن تخلعيه؟ وهربت بعيداً، هل أبقى دون وجه مرّة أخرى؟
- هي (محاولةً إقناعه): وإلى أين يمكن أن أهرب بهذا الوجه البائس؟ هل تريد أن أصبح أضحوكة الجميع؟ كلّ ما في الأمر أنّني أشعر بالبرد الشديد سأرتديه قليلاً حتى أشعر بالدّفء، ثم أخلعه لتلبسينه.
- هو: وماذا لو أنّك لم تشعري بالدّفء عند ارتدائه؟!
- هي (لا مباليةٍ): عندها سأعيده إليك إلى الأبد دون أن أفكّر بارتدائه من جديد، وحينئذٍ يصبح ملكك وحدكَ.
- هو(بطمعٍ): هل هذا وعد منكِ؟
- هي(بثقةٍ): هذا وعد امرأة ماطرة؛ والمرأة الماطرة لا تكذب أبداً.
- هو(بتردّدٍ): سأصدّقك هذه المرة إكراماً لجسدكِ الجميل.
- هي (بفرحٍ ولهفةٍ): هاته إذن. . .
ظــــــــلام
وصوت رعدٍ ووهج برقٍ
المشهد الثاني
نفس المشهد، إضاءة خافتة قليلا حزمة نور مسلّط على الممثّل الذي يجلس على طاولة في منتصف خشبة المسرح
صوتُ رعدٍ ووهجُ برقٍ
- هي (تلبس الوجه اللامع فوق قناعها): إذن هذا هو الوجه!
- هو (يسأل بفضولٍ): هل تشعرين بدفءٍ؟
- هي (بخيبة أملٍ): وجهي يشعر بالدّفء، أمّا جسدي فلا يزال ماطراً!
- هو: إذن أنتِ تشعرين بالدّفء؟
- هي(بإنكارٍ): لا، أبداً.
- هو: إذن أنتِ تشعرين بالبرد؟
- هي(ببرودٍ): لا، أبداً.
- هو: إذن بماذا تشعرين؟
- هي: أشعر بالابتلال، ولا شيء غير الابتلال.
- هو(بتعجّبٍ): مبتلّة بماذا؟
- هي: بهِ، كنتُ أعشقه، معه عرفتُ كيف تكون المرأة ماطرة. كان وسيماً بمعايير المطر، أتعرف أنّ الرّجل يكون وسيماً بمعايير المطر عندما تكونان هناك بحيرتان في عينيه، وتكون لمساته مائية، ولعابه بطعم الزّبد، ولمسته تحمل عواصف وأمطار وبر، كنتُ أحبّه، بل هو من كان يحبّني، أمّا أنا فكنتُ أعشقه. أتعرف ماذا يعني أن تعشق امرأة رجلاً قابلته لدقائق فقط في عمرها؟ يعني أنّها مجنونة، بل يعني أنّه قد أصبح هاجسها وحلمها، يعني أنّ كلّ تفاصيله مصنوعة من خيالها، يعني أنّه قال لها في الأحلام كلّ ما انتظرته من كلمات، يعني أنّه أمطرها عندما لمسها، يعني أنّه أنجب منها جيشاً من الأمراء والأميرات عندما عرّاها، يعني أنّه خلقها من جديد على مهل عندما قبّلها.
أنا من قبّلته، أما هو فقد ضاجعني، وذاق أوّل تنهداتي، كان صاحب عذريتي، وباكتشافي دخل سِفْر الفاتحين، وأصبح من الخالدين.
- هو(باهتمامٍ): وماذا حدث بعد ذلك؟ قولي لي، ماذا حدث بعد ذلك؟
- هي(بشرودٍ): كتبتُ له قصة؛ فالرّجال يحبّون أن تكتب النّساء قصصاً عن بطولات فحولتهم.
- هو: أقصد ماذا فعل هو؟
- هي(بتذكرٍ): آه ماذا فعل هو؟!!! لقد تزوّج (ضاحكةٍ بهستيريّةٍ) لقد تزوّج من امرأة أخرى غير ماطرة ولم يتزوّجني، (بسخريةٍ): كان عنده سبب وجيه لأن يتزوّج غيري، قال (تقلّد نبرة صوته) إنّه يريد أن يتزوّج امرأة بكراً لم يلمسها رجلّ غيرك. لقد نسي أنّه كان صاحب عذريتي، هكذا هو الرّجل الماطر ينسى كلّ من يضاجع من نساء، وينسى عذرياتهنّ المسفوكة.
- هو: ياله من حقير!
- هي: لا تقل ذلك عنه؛ فهو زوجي.
- هو(بتعجّبٍ): لكنّه لم يتزوّجك!
- هي: ولكنّني تزوّجته، ألف مرّة في خيالي تزوّجته، أنجبتُ منه مئات الأبناء والبنات أصحاب الأكف الماطرة والعيون المائيّة. لقد تزوّجني هناك حيث ذبحوني كنعجة لأنّني امرأة ماطرة.
- هو(بفزعٍ): هل قتلوك؟ هذا رهيب!
- هي: بل هو شعور لذيذ، لذيذ أكثر ممّا تتخيل، ليس هناك أجمل من أن تحزّ سكينة عنقك لأنّ قلبك عاشق. لقد عشقته منذ رأيته أوّل مرّة، عندما صافحته، نسيتُ كفّي في كفّه. تخيّل كيف تبدو الحياة بلا كفٍّ. هي صعبة جداً، أعني لذيذة جداً.
- بعد أن قتلوني أصبحت بلا وجه، وهو بلا قلب. معادلة عادلة. أليس كذلك؟ لكن لا قلب عاشق يتوقّف عن القرع باسم معشوقه. هذا هو قانون العشق الخالد.
- هو: ولكنّك ميّتة.
- هي: العشق أقوى من الموت.
- هو (بعصبيّةٍ): هذا جنون.
- هي: هذا هو جوهر العشق، هذا هو الجنون. أن تعشق يعني أنّك تجنّ. لقد كان السّبب في موتي، بل القبيلة هي من كانت السّبب في موتي. أمّا هو فكان السّبب في أن أكون خالدة في سِفْر النساء الماطرت ذوات الوجوه الضائعة؛ من لها قلب عاشق لا تحتاج إلى وجه.
- هو(بلؤمٍ): إذن لماذا صمّمتِ على ارتداء الوجه أوّلاً.
- هي (ثمّل أنّها تنزع الوجه بعصبيّةٍ): هاك هذا الوجه اللعين.
- هو (باهتمام)يحتاج كلّ رجلٍ إلى وجه يرتديه في كلّ صباح.
- هي (بفضولٍ): هل تشعر بالدّفء في هذه اللحظة؟
- هو (بصرامةٍ مصنوعةٍ): من يحتاج إلى الدّفء؟! أنا لا أحتاج إلى الدّفء، لقد تعوّدت على البرد منذ كنتُ هناك في الجبال، الصّقيع امتدّ إلى كلّ مكان في قلبي. أنا في حاجة الآن إلى المزيد من السّلطة والقوة والمال، فهي الدفء الوحيد للقلوب المتجمّدة مثل قلبي.
- هي: والعشق؟
- هو (بطريقة تمثيلية استعراضيّة): أنا أعشق الوطن، لأجله عشت في الجبال خمسة عشر عاماً ثائراً على كلّ قوى الظّلم والتمرّد، آن لشعبي المسكين أن ينال حقوقه، وأن يتحرّر. آن للجبل أن يصبح وطناً، وللثائر أن يصبح حاكماً. أمّا الحبيبة فكان عليّ أن أنساها؛ فالمصلحة أوّلاً، نعم مصلحة الوطن، مصلحتها، مصلحتنا جميعاً. (بعصبيّةٍ): ومصلحتي أنا، لن أعرّض سلطتي ونفوذي وأموالي وآمالي وأحلامي ومكاسبي للخطر من أجل بضعة قرعات في قلبي المتجمّد! أقول لك الحقيقة لا قلب لي، هذه هي الحقيقة. فلماذا تصمّم على أن أعيش بقلبها؟!
هناك في الجبل خلعت قلبي، كلّ شيء خلعته هناك بقوة جبرية. (بأسىٍ): نعم كلّ شيء، خلعته هناك، كي لا تشعر في البرد في الجبال حيث الثلوج والصّقيع عليك أن تخلع جلدك، كي لا تشعر بالجوع عليك أن تخلع معدتك، كي لا تشعر بالحرمان عليك أن تخلع قلبك، كي لا تشعر بالانتظار عليك أن تخلع ذاكرتك، كي لا تشعر بالرّغبة عليك أن تخلع فحولتك. الجبل أخذ مني كلّ شيء. وأعطاني السّلطة والنّفوذ والجبروت! هذا عدل. من يحتاج قلباً في هذا العصر الجليدي؟! أنا فأحتاج السّلطة والقوة والنفوذ. من أجل الوطن (بتوترٍ وعدم ارتياحٍ) بل من أجلي، دون سلطة سوف أُقتل بعد ساعات. العرّي من النفوذ ومن القوة ضعف لا يطاق، الوطن من سوف يقتلني، الوطن الذي عشتَ من أجله سنواتٍ في الجبل، (بنبرةٍ صدقٍ): بل الوطن الذي استرددتُ منه ثمن كلّ سنين الحرمان والعذاب والقهر والخوف والهرب.
- هي: وقلبكَ؟
- هو(بغضبٍ): قلتُ لك إنّ قلبي هناك في الجبل. أنا بلا قلب. (يهمس): أقول لك إنّني أيضاً بلا فحولة. ماذا تريد امرأة ماطرة من رجلٍ بلا فحولة؟! لعلّها (بفخر وتكبّر وثقة) تريد أن تكتب رواية عنّي، هذه فكرة رائعة. على من تحبّني أن تكتب رواية عن بطولتي وعن الجبل وعن وطني الذي أكرهه حدّ الاشمئزاز. إن فعلت ذلك سأهبها قلبي، لا . . . لن أفعل ذلك؛ فلا قلب لي أهبه لها؛ هكذا هم الأبطال المهزومون بلا قلوب، فقط يملكون أيادياً باطشة، وأرواحاً قاحلة لا ترتوي من الأخذ والمال والسّلطة والقوّة(بحزن شديد) هم أيضاً بلا وجوه، نعم هم بلا وجوه؛ لأنّهم ماطرون.
إنّني أشعر بالبرد الشّديد، سأشعر دائماً بالبرد ما دمت أرتدي هذا الوجه اللعين، أنا أشعر بالبرد، أكاد أموت من الصّقيع الذي يداهم روحي وقلبي وجسدي.
ظــــــلام للحظات،
المشهد الثالث
صوت رعدٍ ووهج برقٍ.
إضاءة حمراء خافتة مسلّطة عليها، الممثل يجلس في الكرسي الهزّاز، ويهزّ نفسه بعصبية ورتابة واضحة.
- هي (ترتدي الوجه): كانت مأساتي ستكون أصغر لولا طبيعتي الماطرة بشدّة. ماذا كان سيخسر الإله لو كنت ماطرة باعتدال؟!ستصبح الأرض عندها قاحلة لو كنّ النّساء الماطرات أقلّ عدداً.
- هي: لو لم أكن مصّممة على أن أحمل جمرتين في كفّ واحد لما احترقت؟
- هو: كان عليك أن تتخلّصي من جمرتيك كي لا تحترقي.
- هي (بتأفّف): الجمرات قدرّ، لا أحد يستطيع أن يهرب من قدره، هو جمرتي، والآخر جمرتي كذلك. كلّ الجمرات محرقة أكثر، حتى النساء الماطرات يحترقن بهذه الجمرات، نعم تحترق وبشدّة عندما تكون موزّعة بين عالمي الفضيلة والخطيئة، تحترق بلا رحمة عندما تخلص لرجل اسمه زوجها بجسدها، وتخلص لرجلٍ اسمه حبيبها بقلبها وأزمانها ولحظاتها. فتتمزّق بين قوتين لا ترحمان ضعفها.
- هو: كوني عاشقة لمن تحبين؟
- هي: عندها أكون خائنة لزوجي!
- هو: إذن كوني مخلصة لزوجك.
- هي: عندما أموت حزناً لبعدي عمّن أحبّ.
- هو(بعبثيّةٍ): إذن استردّي الزّمن الماضي، وكوني مع من تحبّين.
- هي: سيهجرني مرّة أخرى من أجل امرأة تجيد الغنج والسّكر وإلقاء القصائد بشهوةٍ وهي عارية فوق طاولة قمار. أمّا أنا فلا أجيد سوى ترانيم الطّهارة، قالوا لي اهجريه في الحاضر انتقاماً لنفسك من خذله لك في الماضي.
لقد هجرته ألف مرة، وعدتُ إليه صاغرة ذليلة ألف مرة أخرى، أقسمتُ أنّه لن يكون حلمي، هجرت النّوم كي لا يكون حلمي، أقسمت ألا يكون طيفي، ما عدت ألقى نفسي كي لا أراه. لكنّه يسكن بين حدقتي العينين، وبين الإغفاءة والصّحوة. هو جمرتي. هو موجود في كلّ هدية اشتريتها له، ولم أجرؤ على أن أعطيها له، هو موجود في كلّ مفرق طرق انتظرته عليه في ليلة معتمة دون قمر أو رفيق، هو موجود في تفاصيل قسمات ابني الذي لم ألده منه، هو موجود في كلّ الضّحكات التي كان مذاباً في سرّها، هو موجودٌ هنا في أعماق قلبي الماطر.
النّساء ذوات القلوب الماطرة عليهنّ أن يرتدين وجوهاً ضاحكة كي يخفين دموعهنّ الحرّى في قلوبهنّ الماطرة، فلا مطر يطفئ جمرة، ولا جمرة تجفّف قلباً ماطرة!
(بندم شديد): لو كنتُ أقلّ تمسّكاً بمبادئي لكنتُ أسعد، بل كنتُ سأصبح أشقى نساء الأرض. ولكنّني الآن الأشقى بلا منازع، ربما كان من الممكن أن أكون أشدّ شقاء لو احترفتِ التنقّل بين سريري جمرتيك. أعرف نساء يحترفن هذه اللعبة الجهنّمية، ولا ضير عليهنّ. لكن تلكم نساء غير ماطرتٍ، هنّ نساء الوحل، هنّ يملكن وجوهاً ملوّنة مبتهجة، هي وجوه مستعارة مثل وجهي هذا؟! أفكر في أن أخلع وجهي المزيّف هذا، (بذلٍ): ولكنّني سأصبح حينها دون وجه؟ سأشعر بالبرد دونه.
ولكنّني أحترق الآن، الجمرات لا تسكن تفاصيل الوجه، بل تسكن القلب. خلع الوجه لا يخلع جمرات القلوب الحرّى!!
تتكوّم على الأرض، وتنشد كأنّها تخاطب حبيبها:
وإنّي لتـعروني لذكـراك هزّة
كما انتفض العصفور بلّله القطر
تكاد يدي تنـدي إذا ما لمسـتها
وينبتُ في اطرافها الورق الخضر
لقد تركتني أحسد الوحش أنْ أرى
ألفـين منـها لا يروعـهما نفر
وقد كنتُ آتيها وفي النّفس هجرها
بتاتاً لآخر الدّهــر ما طلع الفجر
فــما هـو إلاً أنْ أراهـا فجأة
فأبهتُ لا عُرفٌ لـديّ ولا نُـكْر
وأنسى الذي قد كنتُ فيه هجرتها
كما قد تُنسي لبّ شاربها الخمر
هجرتكِ حتى قيل لا يعرف الهوى
وزرتـك حتى قيل ليس له صبر
فيا حبها زدني جوىً كلّ ليلـة
ويا سلوة الأيام موعـدك الحشر
ظــــــــــــلام
المشهد الرّابع
الممثل/الممثلّة م جالسة وسط دائرة نور
- (هو) من قال إنّ القلب لا يمكن أن يجمع بين عشقين، ولكن قلب الرّجل يتسع دائماً لعشق عملاق اسمه الله، ولعشق مقدّس اسمه حوّاء. أعشق الخالق العظيم الذي خلقها على وفق ما أشتهي وأتمنّى. وجودها هو دليلي على وجود الله. من كان سيخلق كائناً خرافيّاً مثلها سوى خالق عظيم. قبلها كنتُ ملحداً، وعندما عشقتها غدوت سلطان العاشقين.
أحـبـّّك أنت؛ لأنّك أنـت لأنّي أنا قلت: كوني، فكنت
وكنت خلاصة أحلام عمري وما بين عيني وبيني سكنت
أحبّ الجنونَ، الجنونُ يوعّي فلولا جنوني أنا ما جننتُ
لا رجلاً يتقن أن يعشق امرأة إن لم يكن عاشقاً للرّب، العشق عملة واحدة، كلّ الوجوه تحيل إلى بعضها. كلّ العشق في العشق حضور:
في حضرة من أهوى
بثـت بي الأشواق
حدّقــتُ بلا وجـهٍ ورقصـتُ بلا ساق
كلّّ عشّاق التّاريخ كانوا عُشّقاً للرّب، لأجلها آمنتُ باللون الأبيض؛ عندما تحبّ المرأة الأبيض، تكون تحبّ أصل وجودها الطّاهر، أحببتها بشدّة، لكّنها أحبّته. لقد خانتني، لا لا لم تخنّي؛ لأنّها لم تحبّني في يومٍ ولو للحظة واحدة. أساساً أنا لم أحدّثها أبداً في حياتي، كنتُ أراقبها من بعيد، ولم تعلم أبداً بوجودي؛ لأنّ من نحبّهم أجمل عن بعد! إذن سعد رجل آخر محظوظ بحبّها! لم يكن محظوظاً؛ فقد رفض حبّها، فقد كان عاشقاً لأخرى. ولذلك فقد انتحرت حزناً على صدّه لها.
(بغضب) للك قتلته؛ لأنّه كسر قلب المرأة التي أعشقها، لو بادلها حبّاً بحبّ كانت ستبقى حينها على قيد الحياة. لقد عشقتها فوق عشقي لنفسي، كان سيكفيني أن تبقى على قيد الحياة؛ لأظلّ سعيداً وراضياً.
- لقد رحل الله من قلبي منذ رحلتْ. أنا الآن بلا قلب، ومن هو دون قلب هو دون رب. أنا كافر مجنون، بل أنا ميت ميت. لماذا كان عليّ أن أرتدي هذا الوجه الشؤم في هذه الليلة؟! كنتُ سعيداً بقناعي الذي يخفي أحزاني وكفري وألمي.
الحقيقة أنا مجنون، كلّنا مجانين. . . كلّهم مجانين. . . أنتم (يشير إلى الجمهور) مجانين، أنتِ مجنونة، هذا المخرج المتواري خلف الكواليس مجنون كبير، تلك الكاتبة المأفونة التي رسمتنا بكلماتها مجنونة، تلك المجهولة التي تشرب قهوتها على وقع قراءتنا كلمات قبل أن نكون شخوص مسرحيّة هي مجنونة أيضاً. . . جميعنا مجانين. الجنون هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة، حتى هذا الوجه الذي أرتديه، وأجهل لمن يكون هو مجنون.
المشهد الخامس
الممثل يقف في وسط الخشبة متخذا وقفة امرأة حائرة.
هي(بحزنٍ): ماذا كان يمكن لامرأة مثلي أن تعمل؟ كيف كان يمكن أن آكل ثلاث وجبات، وأن أنام على سرير، وأن أقفل بابي عليّ دون أن يكون لي عمل؟!
- هي(بانفعالٍ): لم يرحمني أحدٌ في هذا العالم المتوحّش. ماذا كان يمكن أن أعمل سوى أن أبيعهم جسدي الصّغير؟
- هي (بصوت أعلى نبرةٍ): هل تعرف أنّ للجوع أسناناً قاطعة تقضم الرّوح كما تقضم الأمعاء؟ أنا كنتُ جائعة؟ وهم كانوا جائعين لجسدي. أنا اكتفيتُ بلقيمات قليلة، ولكنّهم ما شبعوا منّي حتى أكلوا عظامي، وداسوا على جلدي.
- هي(بمرارةٍ): ليس كلّ البشر ولدوا من أرحام أمهاتهم، ولا من أصلاب آبائهم، فأنا ولدتُ لا شكّ من رحم نباتٍ شيطاني، ينمو وحده، ويموت بقراره، لم أعرف لي أسرة أو أهلاً أو أقارب. وأكاد لا أتذكّر متى رمتني الأيدي إلى الشّارع لأوّل مرّة.
- هي(بفجيعةٍ): لكنّني أتذكّر بالتّفصيل وبالصّرخة وبالألم متى كانت أوّل مرة ذُبحتُ فيها من أجل دراهم قليلة. وأتذكّر كذلك وجه ذلك الذّابح، كان حيواناً برأس بشريّ قبيح، ليلتها رأيت ذيله، أقسم على أنّه كان بذيلٍ مشعوعرٍ غليظ.
قال لي في ليلتها إنّني قبيحة جداً، وبزق في وجهي، احتجاجاً على قبحي، ولكنّه على الرّغم من ذلك صمّم على أن يأخذ مقابلاً لدراهمه الحقيرة، ذبحني، وهو لا يقوى على أن يحدّق في عينيّ
- هي (بنفسٍ متوتّرٍ): قبل أن يذبحني قلتُ له إنّني فقيرة، والجوع يدفعني إلى حضنه، كنتُ آمل أن يرحمني، وأن يعطيني دراهمه القليلة دون مقابل، ما كان ذلك بأمر عسير عليه، فقد كانت محفظته تعجّ بالأوراق النّقدية، وقلادته الذّهبية التي تتدلّى من رقبته الجاموسيّة يمكن أن تنفق عليه ببذخٍ لأشهر طويلة.
عندها قال لي بصوته الثّوري: كلّ النّساء أمثالك يقلن هذا لزبائنهنّ كي يحصلن على المزيد من المال، ولكنّني لن أزيدك درهماً على ما دفعتُ. أنتِ قبيحة، وبالكاد تستحقين ما أعطيتك من دراهم.
- هي (بفخرٍ داعرٍ): اكتشفتُ سريعاً أنّني أملك حضوراً جنسيّاً مثيراً على الرّغم من قب